يوسف بن تاشفين
تكاد المصادر التاريخية التي تناولت الحقبة المرابطية بالمغرب تُجمع على صلاح واستقامة الأمير المرابطي الشهير يوسف بن تاشفين، وهو إن لم يكن من العلماء فهو يعد من الصُّلحاء، لا مِراء.
يقول ابن أبي زرع في “روض القرطاس” : هو أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقوت بن ورتانطق الصنهاجي.. أمه فاطمة بنت سير بن يحيى بن وجاج بن ورتانطق المذكور كان رحمه الله بطلا نجدا شجاعا حازما مهابا ضابطا لملكه.. حافظا لبلاده وثغوره، مواظبا على الجهاد، زاهدا في زينة الدنيا، متورعا عادلا صالحا متقشفا على ما فتح الله عليه من الدنيا، فإنه خطب له بالأندلس والمغرب على ألف منبر وتسعمائة منبر، ولم يوجد في بلد من بلاده ولا في عمل من أعماله على طول أيامه رسم مَكْسٍ ولا معونة ولا خراج في حاضرة ولا بادية إلا ما أمر الله تعالى به.. وكان محبا في الفقهاء والعلماء والصلحاء، مقربا لهم، صادرا عن رأيهم، مكرما لهم، وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعا كثير الحياء جامعا لخصال الفضل…
يقول الأستاذ إبراهيم حركات في كتابه ” المغرب عبر التاريخ” (ج 1) أن يوسف بن تاشفين كان ممن تقبلوا دعوة عبد الله بن ياسين عن طواعية وإخلاص، وكانت معارفه العلمية بسيطة لكنه كان شديد الذكاء قوي العزيمة..
كانت الفوضى السياسية قد اسْتشرت في البلاد، والمجاعات والأوبئة والسياسة الضرائبية المُجحفة التي نهجها أمراء الدويلات الزناتية، التي تقاسمت حكم المغرب عوامل وجهت المرابطين نحو توحيد المغرب والنهوض به سياسيا واقتصاديا وثقافيا..
ويرى الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش في كتابه القيم “المغرب والأندلس في عصر المرابطين” أنه يبدو جليا من خلال سير العمليات العسكرية التي اتبعها المرابطون أنها خضعت لخطة مدروسة ومحكمة..، فبعد العمل على محور سجلماسة – أغمات بقيادة يحيى بن عمر الذي خلف يحيى بن إبراهيم الجدالي وتحت الزعامة الفعلية لعبد الله بن ياسين، ثم محور الوسط الذي هدف المرابطون من خلاله السيطرة على الطريقين التجاريين الساحلي والأوسط، وهي المرحلة التي انتهت باستشهاد عبد الله بن ياسين.. في هذا الوقت – يضيف الأستاذ القادري بوتشيش، لاحت شخصية جديدة في فضاء التاريخ المغربي، وهي شخصية يوسف بن تاشفين الذي تمكن بفضل ذكاء وبراعة زوجته زينب النفزاوية من سلب السلطة من أيدي أبي بكر بن عمر.
وتواصلت المعارك تحت قيادته في اتجاه بلاد فازاز حيث ثم الاستيلاء على لواتة ومدائن مكناسة وفاس. وتوجت هذه المرحلة بتأسيس مدينة مراكش سنة 454هـ (1062م).. ويعتبر تأسيس هذه الحاضرة التي أصبحت عاصمة الدولة الفتية طورا متقدما في تنامي الحركة المرابطية…
وأود في هذا المقام التنبيه إلى أن المستشرق الفرنسي المقتدر ليفي بروفنصال يختلف مع معظم المصادر التاريخية حول مؤسس مدينة مراكش وتاريخ تأسيسها… ففي مقال منشور “بأشغال الملتقى الأول لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض بمراكش: سنة 1988م”، يقول: “وهكذا نجد جميع كتب تدريس التاريخ في بلدان المغرب تستند إلى ابن خلدون، وابن أبي زرع لتحدد سنة 454هـ تاريخا لتأسيس مراكش وتنسب هذا التأسيس، إلى يوسف بن تاشفين، ولو وقع التنبه إلى هذين المعطيين لظهر ما بينهما من قلة الموافقة، فيتحتم مراجعة هذا وذاك، ذلك بأن القواعد الأولى لحاضرة الجنوب المغربي الكبرى إنما وضعت بعد مرور ثمان سنوات على هذا التاريخ المجمع عليه، كان ذلك على وجه التدقيق يوم 23 رجب من عام 462هـ، ولم يكن يوسف بن تاشفين هو صاحب المبادرة في هذا التأسيس وإنما كان هو ابن عمه سالفه الأمير أبو بكر بن عمر..
إن هذا التاريخ تعطيه مجموعة أخرى من الحوليات يرجع تاريخ تأليفها هي أيضا إلى القرن الثامن الهجري ـ غير روض القرطاس وكتاب العبر ـ ولكنها تستند إلى أخبارها استنادا مباشرا إلى مصدر معاصر للمرابطين أنفسهم نأسف على ضياعه ألا وهو كتاب المؤرخ الرسمي للدولة، الأندلسي أبي بكر بن الصيرفي. وتتكون هذه المجموعة الثانية من كتاب البيان المُغرب لابن عذاري، ومن كتيب أخبار نجهل مؤلفه وهو “الحلل الموشية” كما اعتمد ليفي بروفنصال في تحقيقه هذا على شهادة للجغرافي الأندلسي أبي عبيد البكري يقول فيها أن “أمير المرابطين إلى اليوم وذلك سنة 460هـ هو أبو بكر بن عمر و أمرهم منتشر وغير ملتئم ومقامهم بالصحراء”، هكذا في كتاب (المسالك والممالك طبعة دوسلان ص 170). وتعني شهادة البكري ـ التي يتبناها بروفنصال ـ أن مراكش لم توجد بعد في هذا التاريخ…
أعود لأقول أن المرحلة الأخيرة من مراحل توحيد المغرب في عهد يوسف بن تاشفين هي التي همت محور الشمال والشمال الشرقي، فما أن تمت السيطرة على فاس حتى اتجه يوسف بن تاشفين ببصره نحو مدن الشمال، ويذكر الأستاذ القادري بوتشيش في كتابه المذكور أعلاه أن استنجاد المعتمد بن عباد بيوسف بن تاشفين مكنه من الحصول على أسطول بحري تمكن بواسطته من اقتحام مدينة سبتة وإسكات صوت سُّكوت البرغواطي، وبعد ذلك توجه إلى تلمسان ثم بلغ وهران وجبال ونشريس…
يقول عبد الواحد المراكشي في كتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” ولما كانت سنة 479هـ، جاز المعتمد على الله البحر قاصدا مدينة مراكش إلى يوسف بن تاشفين، مستنصرا به على الروم، لأنهم استولوا على طليطلة، بينما يروي ابن الأثير في “الكامل” (ج/141) أن المعتمد أرسل القاضي ابن أدهم إلى يوسف بن تاشفين…
يقول المراكشي في “المعجب”: فرجع المعتمد إلى الأندلس مسرورا بإسعاف أمير المؤمنين إياه في طلبه، ولم يدر أن تدميره في تدبيره، وسلّ سيفا يحسبه له ولم يدر أنه عليه…
فأخذ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في أهبة العبور إلى جزيرة الأندلس وذلك في شهر جمادى الأولى من سنة 479هـ، فعبر البحر ـ وكان عبوره من مدينة سبتة ـ فنزل المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وتلقاه المعتمد في وجوه أهل دولته، وقدم من الهدايا والتحف والذخائر الملوكية ما لم يظنه يوسف عند ملك، فكان هذا أول ما أوقع في نفس يوسف التشوف إلى مملكة جزيرة الأندلس.. وجعل يوسف يتأفّف من الإقامة بجزيرة الأندلس ويقول في أكثر أوقاته: “كان أمر هذه الجزيرة عندنا عظيما قبل أن نراها، فلما رأيناها وقعت دون الوصف” وهو في ذلك كله “يُسرُّ حسواً في ارتغاء” لقد ذكرت نص صاحب “المعجب” على طوله من أجل أخذ فكرة عن نص تاريخي كتب في عهد الموحدين ـ أعداء المرابطين ـ يتناول شخصية أمير مرابطي بهذا النفس الإتهامي عكس معظم النصوص التاريخية التي كتبت خلال العصر المريني مثل روض القرطاس والبيان المغرب والحلل الموشية، وكانت متحررة نسبيا من تأثير السياسة على الأقل فيما يخص تاريخ المرابطين…
وقعت معركة الزلاقة في يوم الجمعة 12 رجب من سنة 479هـ على الأرجح، وذلك فوق سهل الزلاقة.. وانتصر المرابطون بقيادة يوسف انتصارا تاريخيا…
يقول الأستاذ القادري بوتشيش في كتابه السابق الذكر إن هذا الانتصار أدى “إلى تعزيز مكانة يوسف بن تاشفين لدى رعية الأندلس، وأبرزه كقائد محنك قادر على توحيد الأندلس تحت لوائه. كما أسفر عن رفع معنويات الأندلسيين بعد الإحباطات التي تعرضوا لها من قبل الممالك المسيحية، ولم يعد ملوك الطوائف مجبرين على دفع الجزية لألفونسو…
ومن ناحية أخرى؛ فإن المعركة كشفت النقاب عن الانقسامات التي كانت سائدة بين ملوك الطوائف، وتأكد يوسف بن تاشفين من هذا الانقسام إبان جوازه الثاني للأندلس عام 481هـ… مما جعل فكرة القضاء على ملوك الطوائف تدخل حيز التطبيق؛ إذ قرر يوسف أن يحسم داءهم خلال جوازه الثالث نحو الأندلس… وكان الأمر كذلك عام 483هـ، فانتهت مهزلة ملوك الطوائف وأصبحت الأندلس ولاية مغربية، واقتيد المعتمد بن عباد إلى أغمات وأيضا عبد الله بن بلقين.. و مهما قيل عن قساوة بن تاشفين على المعتمد بن عباد الذي لا يمكن ـ على كل حال ـ لشعره البكائي أن يقنعنا بشيء ما حول جلافة ابن تاشفين المدعاة التي يروج لها الكثير من الكتاب الاسبان وبعض المغاربة من غير ذوي التحقيق، ويكفي أن نستدل برأي للمستعرب الفرنسي ليفي بروفنصال في مقاله السابق الذكر حيث يقول: “ثم إن مما تجدر ملاحظته كون الأميرين الأندلسيين اللذين نفاهما يوسف بن تاشفين من إسبانيا إلى المغرب وهما عبد الله الزيري (بن بلقين) صاحب غرناطة والمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، لم ينقلا إلى مراكش، بل نقلا إلى أغمات حيث كان العيش في ذلك العهد ألين والمقام أقل شظفا؛ إذ أن ما ينسب للسلطان المرابطي من قسوة في حقهما وما ذكر من قضاء المعتمد خاصة بقية أيامه في الفاقة والحرمان التام، ضرب من ضُروب الخرافة”…
توفي يوسف بن تاشفين رحمه الله عام 500 هـ عن عمر يناهز مائة سنة، وقبره المتواضع معروف إلى اليوم بمراكش…
والله الموفق للخير والمعين عليه.
-
جهد فكري مشكور، كان من الممكن من أخينا الباحث النبيه جمال بامي أن يفصل أكثر في مسألة نفي الأميرين المعتمد والزيري إلى أغمات، ويبرز تهافت شبهات بعض المتباكين على فرية قسوة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين على الأميرين.
أشيد بكتابات الدكتور جمال بالمي المتميزة.
التعليقات