ولوأنهم فعلوا ما يوعظون به..
قال الله تقدست أسماؤه: “ولو اَنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذاً لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا” [النساء، 65-68].
وقال جل شأنه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” [الصف، 2-3].
تشير الآية الأولى إلى سر عظيم من أسرار الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصّدّيقين والشهداء والصالحين ..هؤلاء الذين نسأل الله تعالى في كل صلاة فرض أو تطوع أن يجعلنا معهم، وأن يهدينا صراطهم عندما نقول: “اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم” [الفاتحة، 5-6]؛ والذين أنعم الله عليهم بنص الكتاب هم النبيئون والصّديقون والشهداء والصالحون، وهؤلاء جميعا يمتازون بمنقبة جليلة ويتصفون بصفة راسخة؛ ربما كانت الأصل والأساس لكل مميزاتهم وخصائصهم، وهي كونهم يفعلون ما يوعظون به ويتبعون أحسن ما أنزل إليهم من ربهم.
فالآية رتّبتْ على التحلّي بهذا الوصف جملة من المصالح العظيمة والفوائد الجمّة التي ينشدها المؤمنون وتتقطع دونها أعناقهم في العاجل والآجل، فقال الله جل وعلا: “ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم” (هذه الفائدة الأولى) “وأشد تثبيتا” (الفائدة الثانية) “وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما” (الفائدة الثالثة) ولهديناهم صراطا مستقيما (الفائدة الرابعة)..إنكم تدعون الله أن يهديكم (الصراط المستقيم) وأن يُثبت أقدامكم عليه؛ فهاهو مفتاحه الأخطر وسره الأكبر: أن تفعلوا ما توعظون به، وأن تتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم..
فمن مظاهر أزمة السلوك في حياة المسلمين اليوم وأسبابها في آن واحد؛ هي كونهم يعيشون (أزمة الفعل) على أكثر من صعيد وفي شتى المجالات: إذ لم نستطع حتى الآن أن نتحول من دائرة القول إلى دائرة الفعل، أو نتحول من دائرة الانفعال إلى دائرة الفعل بل إننا نعيش (أزمة الفعل) بأسوأ مظاهرها وخصائصها الثقافية والتاريخية التي أخبر القرآن الكريم عن كثير من أعراضها ودلائلها على نحو ما ذكره عن علماء بني إسرائيل بقوله تعالى: “أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” [البقرة، 43]. وقوله: “لاَ يحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ” [اَل عمران، 188] وقوله في مواضع أخرى: “فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ” [البقرة، 70] وقوله: “كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبيْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ” [المائدة، 81] وقوله: “يَا أَيهَا الذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تفعلون كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” [الصف، 2-3].
وإن من أبرز مظاهر أزمة الفعل في سلوكنا اليوم أننا نقول ما لا نفعل، أو أننا لا نفعل ما نقول، أو أننا نقول أكثر مما نفعل!! أو أننا لا نريد أن نفعل، أو أننا لا نعرف كيف نفعل، أو أننا لا نقدر على الفعل، وأجمع تلكم المظاهر الدالة على الأزمة في هذا الباب مظهر الخلف (التناقض) بين القول والفعل، واستبدال الأفعال بالأقوال..
وأنا أتصوّر أن منظومتنا الثقافية والسلوكية تعاني من الأزمتين معًا: أزمة قول، وأزمة فعل، وأن الثانية في حقيقتها وأصلها هي فرع عن الأولى ونتيجة طبيعية لها؛ باعتبار الكلام الذي ننتجه والخطاب الذي نصوغه؛ لا يثمر (فعلا أو فاعلا) ولا يفضي إلى توليد (الفعل أو الفاعل) لا على المدى البعيد ولا القريب.. وعليه، فلا بد أن نحلل العلاقة الجدلية بين الطرفين على أن أفانين القول والأنماط التعبيرية التي ننتجها تؤدي في يوم من الأيام إلى إيجاد الفعل الذي ننشده. واقرأ إن شئت قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا” [الاَحزاب، 71] فانظر كيف ربط بين القول السديد وبين صلاح الأعمال، والعجيب أن من معاني القول في اللغة العربية مباشرة الفعل وإنفاذه كما يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم “إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا” استعمل القول بدل الفعل أي إنما كان يكفيك أن تفعل بيدك هكذا، ولعل في هذا التعبير إشارة إلى مصاحبة قول القلب؛ أي النية لعمل اليدين ورواية البخاري “إنما يكفيك أن تصنع هكذا” وهذا أيضا جارٍ على نحو ما يشير إليه الشاعر:
إنا نتوق لألسن بُكْمٍ على أيد فصاح
ونحن نلاحظ في المشهد الدولي اليوم تراشق الكلام بين قطبين أو طرفين، ونلاحظ دلائل التحدي والاستجابة، والأخذ والرد، وفتح مجالات تعبيرية معينة واجتناب غيرها، وهذا ما يشكل ما يصطلح عليه بعضهم بـ “سياسة الكلمات” التي يحاول كل طرف من خلالها تسجيل مواقف معينة، وتسويغ مواقف أخرى، وفرض أوضاع ووقائع معينة على الطرف الآخر، وهكذا يمكن القول إن أحوال الواقع التي نعيشها اليومقد مهدت لها الكلمات والخطابات والتصريحات المتعددة، وإن كثيرا من تحركات القوة وموازينها في الواقع التاريخي إنما رسمت الكلمات المنتقاة معالمها وظلالها الأولى، بل يمكن أن نذهب إلى حد القول إنه لولا الكلمات ما كانت الأفعال..!!
و”دينامية الفعل” و”هندسة الفعل” ليكون موافقا متّبعا لأحسن القول مكون مهمّ من مكونات الثقافة الإيجابية الصالحة والمجتمع السوي، ومن هنا كان مبدأ القدوة من أنجع وسائل تربية الأفراد وتنشئة الأمم؛ فالطفل والتلميذ والطالب والناشئة والشعب لا بد له من قدوات يراها رأي العين، تتحرك بمشاريعها ومنجزاتها العملية الواقعية، وتتكلم بلسان الأفعال قبل لسان الأقوال؛ ليتشرب الجميع المبادئ والقيم التي ننشدها ونخطب بها؛ فالطفل الذي يرى والده يكذب لا يمكن أن يتعلم منه الصدق، والولد الذي يرى أمه تغش لا يمكن أن يتعلم منها الأمانة، والبنت التي ترى أمها مستهترة لا يمكن أن تتعلم منها الفضيلة، والولد الذي يقسو عليه والده لا يمكن أن يتعلم الرحمة والسماحة، والولد الذي يرى والده يدخن لا يمكن أن يطلب منه ترك التدخين.
أرسل تعليق