ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق.. (1/3)
القرآن مبين، كاشف للحياة وللأحياء، وللحقائق التي يكون الإنسان مستعدا لكي يكتشفها، فالقرآن المجيد فيه، وكما يقول المربون، القدر الأعلى من البيداغوجية، أو من الديداكتيك، هناك حقائق قد لا يكون الناس في استعداد لتقبلها في بعض الأزمنة، وفي بعض الأوقات، كما وقع لابن العربي المعافري رحمه الله والذي أثر عنه قول جميل نقله لنا الزركشي والبقاعي وغيرهما، قال: “وقد ظهر لي أن هذا القرآن المجيد كالقول الواحد، وكالخبر الواحد، وأنه يتصل أوله بآخره، قال: فلما لم نجد لهذا العلم حملة، ورأينا أكثر الخلق بأوصاف البطلة، طويناه، ورددناه، وجعلناه فيما بيننا وبينه تعالى“، فهو رأى أن هذا العلم لا يصلح في ذلك الوقت أن يُكشف، وهو المعنى الذي أشار إليه ابن الجوزي (توفى سنة 597) مرة حين سئل عن بعض الآيات ذوات المدلول النوراني القوي فقال: “هذه رزمة نفيسة غالية، لا تحلّوها، فما عندنا الآن من مشتر!“، فهذا التكشف الذي يتكشف به القرآن المجيد عبر الزمن، وبحسب استعدادات الناس، وإن كان هناك من الناس في كل عصر من يفتح الله لهم أبواب بعض الاستبانات فيظهر لهم ما يظهر قد يصرّفونه وقد يطوونه، وربما يجزّئون ما يظهر لهم جزءا جزءا، لكي يمرروه بحسب ذوقهم وبحسب استعدادهم، وهو قول الله عز وجل: “لَوْ اَنزلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” [الحشر، 21]. “وَلَوْ اَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى” [الرعد، 32]، هذه القوة المكتنزة في القرآن المجيد، هي القوة التي يحتاج إليها عالَم مثل عالَمنا اليوم في هذا الزمان، أكثر من أي زمان مضى.
فالقرآن الكريم فيه هذه القابلية لأن يفسر الحياة والأحياء للناس، وأن يظهر لهم هذه السنن، وأن يظهر لهم هذه الحقائق، ولكن بحسب قوة المستمد الذي يستمد من القرآن المجيد، وهو استمداد له آدابه وله قواعده، منها الآداب النفسية، والأسس العلمية، وكذلك صلاح وصفاء هذا الإقبال، ففي مجال التعاطي مع هذا الكون الذي يحتوشنا، نجد أن الإنسان يُجري حواراً مع هذا الكون من خلال طرح الأسئلة عليه، وتلقي الأجوبة منه، وتحويل هذه الأجوبة إلى أسئلة مرة أخرى، وهي أسئلة تُطرح على الكون في المختبرات، وفي صوامع البحث العلمي، وهذا الحوار هو الذي يُخرج لنا كل هذه الأمور التي ننتفع بها اليوم، ولكنه حوار يقوم على الإيمان بشيء جازم، وهو أن هذا الكون قد بني وفق نسق، وأن فيه قوانين تحكمه، وأنه ليس فوضى، فأول اكتشاف قد حرر طاقة الإنسان الإبداعية، ومكنه من القراءة المثمرة في الكون، والحوار المثمر معه، هو إيمانه بأن هذا الكون نسق، وأنه مبني على علل، وأنه ليس فوضى، وأنه منظم، وأن وراءه مقاصد، ووراءه حكماً يسميها البعض حكمة الطبيعة، ويسميها أهل الإيمان بحكمة الله عز وجل الذي قد أودع هذه المقاصد، وأودع هذه الحكم في خلقه الذي هو الكون، وكلما استحرّ الحوار بين الإنسان والكون إلا وأعطى هذا الكونُ خيراتِه للإنسان، لأن هذه الخيرات عطاء غير محظور “كلا نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا” [الاِسراء، 20]، فالكون لا يفرق بين مؤمن ولا كافر ويعطي لمن يحاوره، وعنده هذه القدرة على العطاء إلى حين “ولكم في الاَرض مستقر ومتاع إلى حين” [البقرة، 35]؛ لأن هذا الحين سوف ينسخ “وَإِذَا الاَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ” [الانشقاق، 3-4] “إذا زلزلت الاَرض زلزالها وأخرجت الاَرض أثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها” [الزلزلة، 1-5]، والوحي المقصود في هذه الآية الكريمة، وحي جديد بعدم التسخر، ولذلك يقول الإنسان مالها؟ لماذا لا تعمل هذه السنن؟ والجواب هو، أن هذا وحي جديد نسخ الوحي القديم بالتسخر، فإذن حوار الإنسان مع الكون بهذا الحرص، مع استبطان أن هذا الكون نسق منظم، هو الذي يمكّن الإنسان من أن يُجريَ هذا الحوار في احترام للأبجد الكوني، واللغة التي يفهمها الكون، بحيث يصوغ أسئلته بها، وإلا فإن الكون يرفض إجراء الحوار، ومن ثم يتأبّى على التسخّر، ولذلكم نجد أن هذه العلوم التي أثمرتها هذه القراءة في الكتاب المنظور “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الاِنسان من علق” [العلق، 1-2] هي التي أعطت علوم التسخير من إلكترونيك، ومن سبيرنطيقا، وطب.
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق