(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)
اللغة إبداع إنساني جميل أقدر عليه الإنسانَ خالقُه الرحمن، قال تعالى: “الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان” [الرحمن،1-4]، وقال عز وجل: “وعلم آدم الأسماء كلها” [البقرة، 31] وقد ذهب لفيف من المفسرين، وفي مقدمتهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، إلى أن تعليم الأسماء، هو إقدار الإنسان على تسمية الأشياء في ذاته ومن حوله..
غير أن التراكم اللغوي الذي حصل عبر تاريخ الإنسان، وفي جدلية تامة مع محيطه وإملاءاته، قد أدخل إلى ممارساته اللغوية المتعددة، قوالب وعادات يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي، والوظيفي بالتكميلي، والسليم بالسقيم، مما حوّل الأداة اللغوية أحيانا إلى عائق نفسي واجتماعي، وأحيانا أخرى إلى سمّ زعاف يغتال الهمم والإرادات، أو يسرب عادات بالغة الإضرار بالفرد والمجتمع. أو على حدّ تعبير ماكس مولر Max Muller، تتحول اللغة إلى سجن حاجز، مثالا على ذلك حين تصبح كلمات “فلاح”، “خماس” سبة ووصمة، فإن ذلك يؤدي إلى العزوف عن الفلاحة والإنتاج الزراعي واحتقارهما مما قد يؤدّي إلى ضرر بالغ بالمجتمع، وقد أُثر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من ذلك أنه لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال: “هذه يدٌ يحبها الله ورسوله” كما أن عادة سربلة الجمادات والأشياء بإرادات متآمرة كقولنا “أبى التمرين الحل” أو “هربت الحافلة” يعفينا من المسؤولية والإحساس بالذنب.. كما أن تبنّينا لجملة من التسميات اللغوية لظواهر اجتماعية معينة، يحجب عنّا علاقتها بمجموعة من القيم، فحين نطلق على الغني وسم: فلان “مسّك عليه الله” بغض النظر عن مصدر ثروته، فإن ذلك يرسي في مجتمعنا النظر إلى الغنى باعتباره رضى وإكراما إلهيين، ونعمة في كل الأحوال، في تجاهل إلى كون ذلك ولو في حالة حلّه، ابتلاء، وأن المال وجب أن يصرف في أوجهه، وهو ما ينبه إليه قوله تعالى: (كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحضون على طعام المسكين، وتاكلون التراث أكلا لما، وتحبون المال حبا جما، كلا، إذا دكت الأرض دكا دكا، وجاء ربك والملك صفا صفا، وجيء يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى” [الفجر، 17-23].
وحين نطلق على ظاهرة الزنا بثمن، لفظة البغاء، نكون قد قصرنا نظرنا دون وعي منّا على طرف واحد هو اللواتي يتعاطين الجنس بمقابل، وغيبنا الزبناء والوسطاء الذين هم الجلادون وضمانة استمرار هذه العادة الخطيرة. كما أن الممارسات اللغوية الإيجابية تشكل رافعات نماء حقيقية للفرد والمجتمع وهو ما يثبته علم البرمجة العصبية اللغوية (PNL) بمختلف مدارسه.
بناء على ما سلف، فإن أهل كل لغة مطالبون بدوام النظر النقدي، والتصويبي، والتوجيهي إلى ممارساتهم اللغوية، قصد تصفيتها، وضبطها، وتغليب نفعها، وتقليل ضررها، إقامة لها فيما وجدت لأجله ابتداء، وهو البيان، مما هو دون الكفاية بكثير في مجتمعنا الحبيب، وهو أمر وجب العمل لاستدراكه من خلال إطلاق الدراسات والأبحاث المعينة على الوقوف على الاختلالات التي تخترق ممارستنا اللغوية، ثم رسم الاستراتيجيات المندمجة ومتعددة الأبعاد لتصحيح ذلك؛ وهذه المعاني جميعا، يوجّه إليها بإشراق وتحميل للمسؤولية قوله تعالى: “وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن” [الإسراء، 53].
والله المستعان
أرسل تعليق