وفي أنفسكم
الحمد لله رب العالمين، الذي خلق القلم وعلّم به، وأنزل القرآن فتفجرت منه ينابيع المعرفة وخلق الإنسان ثم أكرمه بتعلم البيان.. كيف لا وهو القائل سبحانه: “الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ” [ سورة الرحمن/الآيتان:1ـ2].
وأفضل صلاة صليت على مخلوق، سيدنا محمد بن عبد الله رسول الله النبي الأمي، الذي علمه الله من علمه: “وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا” [سورة النساء/الآية:112]. وجعله معلماً لمن بُعث إليه من الخلق أجمعين: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ ءاياته وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” [سورة الجمعة/الآية: 2]
أما بعد: فإن من الحقائق الثابتة والأمور المسلّم بها: أن الإسلام هو دين العلم والمعرفة، وأنه اهتم بالعلوم كلها ـ سواء كانت علوماً شرعية أو كونية، نظرية أو تجريبيةـ اهتماماً شديداً، إما بدعوته إلى القراءة مفتاح التعلم، أو برفعه مكانة الذين يعلمون فوق الذين لا يعلمون، أو باحترامه وتقديره للقلم والكتاب آلة العلم ووسيلة تدوينه ووعائه أو بلفت الأنظار إلى كثير من الحقائق العلمية المعلومة للإنسان حينها أو المجهولة، أو بدعوة البشر إلى التفكر والتدبر والتنقل بين بقاع الأرض والسفر، والغوص في أعماق النفس وأصل خلق البشر، واستخراج خيرات الأرض والبحر، وتتبع منازل الشمس والقمر، وتقلبات الليل والنهار، واختلاف الأحوال والطباع في الإنسان والحيوان، وغير هذا وذاك من دلائل الاهتمام بالمعرفة وبراهين الاحتفاء بها.
نعم لقد فتح الإسلام باب العلوم، ودعا المسلمين إلى الدخول فيه أفواجاً، ونصب لهم ميدان التنافس فيه واسعاً، وزرع في نفوسهم حب السبق فيه والابتكار، وادخر لهم في الآخرة بسببه خيراً كثيراً.
لذلك فليس من العجب أن يكون لأمة الإسلام في مضمار العلم سجل ناصع مشرف، وأن تحوز قصب السبق في كل فن، وأن يسجل التاريخ بكل افتخار أن المسلمين كانوا أكثر أهل الأرض قراءة وكتابة وتعلماً وتعليماً وتأليفاً وتدويناً وابتكاراً واختراعاً وتحقيقاً وتدقيقاً.
كما أنه ليس من العجب أن نرى كثيراً من العلوم والمعارف والفنون عاشت في كنف الإسلام والمسلمين: نبتت بذورها في أرضهم ابتدءا، ورعتها أكف علمائهم دائماً، واتشحت بحللهم أبداً.
وكذلك أيضاً، فليس من العجب أن نعلم أن المسلمين تلقوا علوم من سبقهم من يونان وفرس وهنود ورومان فهضموها هضماً جيدا،ً ونقحوها تنقيح خبير عليم، ونقدوها نقد بصير واع، ونقلوها وترجموها إلى لغتهم العربية نقل أمين مقتدر.
إن هذا كله يعلمه من له أدنى اهتمام بتاريخ العلوم عند المسلمين.
ومما لا يشك به أي مؤمن بالله أن هذا القرآن والذي هو دستور هذه الأمة، يخاطب العقل ويحثه على التفكر في خلق الله كالسماوات والأرض وإمعان النظر في الكون وفي الأنفس والآفاق وجعل ذلك وسيلة للوصول إلى الإيمان بالله، قال تعالى: “اَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالاََرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُومِنُونَ” [سورة الأعراف/الاية: 185].
ولقد أيد الله تعالى رسله بمعجزات، وكانت معجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم- هي القرآن الكريم الذي عجزت الإنس والجن عن الإتيان بمثله، قال تعالى: “قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الاِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً” [سورة الاِسراء/الآية:88].
ومعجزة القرآن الكريم تتمثل في وجوه كثيرة:
أولها: في وصوله لنا عن طريق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو لم يمسك قلماً ولم يكتب أو يقرأ.
ثانيها: البلاغة، وكونه فصيحاً بلسان عربي مبين، قال تعالى: “قرءانا عربيا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” [سورةالزمر/الآية: 27]، وقد عجزت العرب رغم فصاحتهم بالإتيان بمثله لما فيه من حسن بلاغة وقوة في المعاني وبراعة الألفاظ ودقة التشبيه وحسن ترابط وتسلسل المعاني.
ثالثها: أنه يخاطب العقل والقلب معاً، فتجد له وقعاً على كليهما، وجعله الله شفاء للقلوب ورحمة ونور، قال تعالى: “يَأيها النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُومِنِينَ” [سورة يونس/الآية: 57].
رابعها: ضرب الأمثال في القرآن التي تقرب المعاني وتفتح الأذهان المغلقة والعقول الحائرة فتقنع كل إنسان يريد أن يصل إلى الحقيقة قال تعالى: “وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” [سورة الزمر/الآية:26].
خامسها: الإيقاع المنتظم للقرآن الذي جعل كفار قريش يتهمون محمداً بالسحر مرة ومرة بالشعر ومرة بالكهانة، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ” [ سورة يونس/الآية: 76].
سادسها: الإعجاز التشريعي في القرآن: لقد أرسل الله رسله بالبينات ليقوم الناس بالقسط – ابن القيم، قال الله تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” [سورة الحديد/الآية: 24]. وبه بيان للأحكام العامة التي يقوم بها أمر الأمة وأحكام الحدود والديات والأسرة والمواريث وغيرها مما يستقيم به أمر الأمة.
سابعها: قصص القرآن التي هي أحسن القصص، قال تعالى: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ” [سورة يوسف/الآية: 3]
ثامنها: الإعجاز العلمي في القرآن من المواضيع التي بدأ انتشارها مؤخراً بصورة كبيرة وبلغت البحوث العلمية أوجها واكتشفت كثير من الحقائق التي تحدث عنها القرآن قبل أربعة عشر قرن من الزمان ولا يزال المزيد يكتشف خاصة في مجال الفلك وعلم الأجنة والتشريح والجيولوجيا وعلم الحيوان والنبات وآيات لا حدّ لها بيّنها الله تعالى في القرآن تكفي لتبيين أنه الحق من عند الله وأن الله هو الحق المبين، قال تعالى: “سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” [سورة فصلت/الآية:52] علما أن هذا النوع من الإعجاز لا يمثل إلا جزءا يسيرا من معجزة القرآن وإلا فإن بيان القرآن وحده كاف على الله الخالق وحده لا شريك له.
الوسوم
وفي أنفسكمالمقال السابق
لا توجد مقالات
المقال التالي
الإعجاز العلمي ضوابط وحدود1/3
-
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ميثاق الرابطة…….أحيا بارق الأمل في نفوس أبناء وبنات الأمة الإسلامية وفي نفس الوقت بعث أكيد للرضى وتفاؤل في القلوب، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فموضوع الدكتورة فتيحة عزو "وفي أنفسكم" أبان عن ثقة واعية مباركة، وتألق في ميدان البحث، يسري نوره في حنايا النفس، وضياء يشع في قسمات الوجوه.
ويكفي العاقل اللبيب وهو يمعن النظر فيما ساقته من دلائل من كتاب الله عز وجل، أن يرفع رأسه معتزا بأن الكلمة الحية لا تموت، بل تزدهر وتزداد جمالا ورونقا مع الأيام، وتعتبر بحق فتحا في الثقافة الإسلامية.
وهنا لابد أن أدلي بدلوي لأشرح الميزات التي يتميز بها هذا البحث القيم، الذي ركز آي الذكر الحكيم ليعرف الإنسان من هو؟ وأن الحقيقة لا يجوز أن تتغير وإن أساء إليها الملاحدة مع الأيام.
وأنه لابد للمؤمنين أن يحموا الحقائق ويدافعوا عنها، ويزيحوا العوائق عن الضمائر حتى لا يكره أحد على باطل ولا يمنع عن أحد منحه الله عقلا يريد به أن يصل إلى الحق، ولذا فعلى كل أحد أن يتجه إلى نفسه بتألق البصيرة وسعة الأفق لأن أثر القرآن الكريم على النفوس بالغ العمق.
وبمعرفة النفس وصدق الاتجاه، والاستقامة على الطريقة التي رسمها القرآن؛ لأن الله تعالى خلق الزمان والمكان، والليل والنهار من أجل أن يتذكر الإنسان، وأن يشكر خالقه ولا ينساه، قال تعالى: {هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} [سورة الفرقان/ الآية: 62].
وعقيدة التوحيد التي تناولتها الباحثة أكثر الله من أمثالها بكل ما في التوحيد من صواب ورشد وسداد، يتفاعل معها الدعاة والباحثون، ممن لهم لب ناضج وقلوب سليمة متفائلة تشعر بأن الأمة بخير، إذا وجد فيها من يفتح الأمل الكبير أمام العاملين، ممن يملكون اليقظة الراشدة.
والعاقل عندما يتجه إلى نفسه متأملا فاحصا يعلم أن الله سبحانه يمده بتيار الوجود، يتمثل في خلق ضابط وثيق يحكم الهوى وتدين صانع لعاطفة ربانية رقيقة، تجعل المرء يحني رأسه خاشعا من صنع الله الذي أبدع كل شيء وأتقنه حيث يقول سبحانه: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} سورة ال عمران/ الآية: 18].
وكلما تأمل هذا الإنسان في نفسه وجد أن سنة الله في خلقه لا تتغير، والحقيقة لا تتغير ولا يجوز أبدا أن تتغير ولذلك فالتأمل المجرد السليم، يعقبه التسليم لله تعالى والاستسلام لحكمه والخضوع له، ومن خلال هذا التأمل نصل إلى بناء أمة حملها ربنا تبارك وتعالى رسالة صاغها في كتاب: { لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [سورة فصلت/ الآية: 42]. -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما وبعد فإن هذا الخطاب الموسوم ب " وفي أنفسكم " دعوة ذكية إلى إعمال الفكر في اتجاهات الخطاب القرآني الكريم المحفز للإنسان كي يقف على دلائل قدرته عز وجل التي تفضي بالضرورة إلى الإيمان به والتسليم له بالوحدانية والألوهية.
والحق أقول أن مقالكم هذا وضع اليد على المقولات الأساسية التي تدور حول قضية التفكر في خلق الله وقدرته الممتدة في أنفسنا وفي ما يحيط بنا من عوالم طبيعية وحيوانية.
ثم إن المقال حصر قرائن الإعجاز في ثماني علامات مهمة هي بمثابة الأصول في هذا الباب وغالبا ما تدور حولها الفروع.
فالشكر كله لكاتبة المقال التي نفعتنا بما فتح الله عليها، نسأل الله عز وجل أن يزيدها من علمه وفضله، وان تستمر فلا تتوقف.
ولا ننسى القائمين على إدارة هذه المجلة الثرية بمادتها الجادة والدقيقة، الله نسأل أن يوفقهم ويسدد خطاهم وان يلهمهم القدرة والاستمرار.
ونرجو أن تقبلونا أخا وصديقا.أخوكم محمد أبو شاكر
باحث في الإعجاز والدراسات القرآنية والحديثة
التعليقات