هوادي التعرّف (48)
التصوف على طريقة الجنيد السالك حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ:
المبدأ الثامن في طريق التصوف: التحلي بمقامات اليقين (4): بيَّن الناظم رحمه الله مقامات اليقين بذكر أسمائها، فقال
خَــــوْفٌ رَجَــا شُكْرٌ وَصَبْرٌ تَوْبَةٌ زُهْــدٌ تَـــوَكُّـلٌ رِضَــا مَــحَــبَّــةٌ
بعد مقامات الخوف والرجاء والشكر، يأتي الناظم على ذكر مقام الصبر. ومعلوم أن الصبر لا يُحصى ثوابه، فإن كانت الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فإن الصبر فوق ذلك كله؛ لقوله تعالى: “اِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ” [الزمر، 11]. كما ورد في فضل الصبر ما يدل على أنه جماع كل فضيلة وملاك كل فائدة ومكرمة نبيلة؛ قال تعالى: “وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ” [الاَعراف، 136-137]، وقال: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمُ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا” [السجدة، 24].
و ذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامات، أولها: المحبة، قال تعالى: “واللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ” [اَل عمران، 146]، وثانيها: المعية الإلهية، قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” [البقرة، 152]، وثالثها: غرفات الجنة، قال تعالى: “أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا” [الفرقان، 75]، ورابعها: الأجر الجزيل، قال تعالى: “اِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ” [الزمر، 11]، والأربعة الأخر: البشارة والصلوات والرحمة والهداية المذكورة في قوله تعالى: “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” [البقرة، 154-156].
وقد يصل الصبر بصاحبه في الجزاء إلى مقام الشكر لقول الله تعالى عن سيدنا سليمان، مع ما أنعم عليه من نِعم الـمُلك والعافية: “نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ” [ص، 29]، وقوله عن سيدنا أيوب، مع ما كان فيه من البلاء: “نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ”، فاستوت الصفتان في ذِكرهما، فهذا مُعافى وهذا مُبتلى، ومن ثَمّ قام الشكر مقام الصبر، فلما اعتدلا كان البلاء مع الصبر مقرونا بالعافية مع الشكر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: “فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يَسِّرَا”[1].
وقد تكلم الصوفية في الصبر بما حَصَل لديهم عن طريق التجربة والذوق، مما يدل على أنه مقام من مقامات طريقهم:
قال أبو العباس المرسي: “الصبر مشتق من الأصبار، وهو الغرض الذي يُرمى عليه بالسهام، فالصابر من نصب نفسه غرضا لسهام القضاء”[2].
ومِنَ الصبر حبس القلب على أحكام الله وأوامره وطاعته، والصبر على معاصيه وبلائه، لذلك قال حجة الإسلام: “هو عبارة عن ثبات باعث الدين الذي هو في مقابلة باعث الشهوة، وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضاداتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة، فإذا قوي ثبات باعث الدين أثمر ترك الأفعال المشتهيات”[3]. وفي الحديث: “المجاهد من جاهد هواه، والمهاجر من هجر السوء”[4]
وقال أبو طالب المكي: “لا يخرج العبد من الصبر كراهة النفس، ولا وجد المرارة والألم، بل يكون مع ذلك صابرا؛ لأن هذا وصف البشرية لما ينافي طبعها، ولكن يكون حاله الكظم عن الشكوى ونفي التسخط بحكم المولى؛ لأن عدم ذلك وفقده هو الرضا وحقيقة التوكل، وهذا من أعالي مقامات اليقين، وفقد مراتب اليقين لا يخرج عن حد الصبر، والذي يخرج عن حد الصبر ضده وهو الجزع ومجاوزة الحد من الغم، وإظهار التسخط، أو كثرة الشكوى، وظهور التبرم والذم”[5].
وليس من شرط الصبر عدم وجود الألم، فقد تألم عليه الصلاة والسلام بقتل عمه حمزة، وتألم بما رُميت به عائشة رضي الله عنها، كما ذَكر القرآن الكريم آلام الأنبياء عليهم السلام. قال تعالى: “فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ” [الاَحقاف، 34]، وقال: “وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ” [الطور، 46].
قال ابن عطاء الله السكندري في حِكمه: “ليخفف ألم البلاء عليك عِلمُكَ بأنه سبحانه هو المبلي لك”[6].
وقال في لطائف المنن: “صبر الأكابر على كتم الأسرار، وفقد الركون إلى الآثار، وعدم الوقوف مع الأنوار، وصبرهم على حمل الأذى، والثبوت تحت مجاري القضاء، وصبرهم على حمل أثقال العباد، والصبر مع الله فيما أراد منه على القيام بأحكام العبودية، والثبوت بمجاري أحكام الربوبية، صبرهم على مكارم الأخلاق والـمُقام مع الله بشرط الوفاق، صبرهم على جمع الهمّ عليه ورجوعهم في كل أمر إليه، صبرهم على الجلوس للخلق، والدلالة على الملك الحق”[7].
وأما التوبة فقد تقدم الكلام عنها في قول الناظم رحمه الله:
وَتَــوْبَــةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يُجْتــَرَم تجِبُ فَوْراً مُطْلَقاً وَهْيَ النَّدَم
———————————–
1. مسند الإمام أحمد، ح: 2666.
2. لطائف المنن، لابن عطاء الله السكندري، ص: 45.
3. إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، 4/5-6.
4. مسند أحمد، ح: 6721، وسنن الترمذي، كتاب: فضائل الجهاد، ح: 1546.
5. قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي، 1/199.
6. غيث المواهب العلية، ص: 139.
7. لطائف المنن، لابن عطاء الله السكندري، ص: 96.
أرسل تعليق