هوادي التعرّف (38)
التصوف على “طريقة الجنيد السالك” حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ:
المبدأ السادس في طريق التصوف: الإكثار من الذكر(1): بعد الكلام عن التوبة والتقوى، وصحبة الشيخ العارف بالله، ومحاسبة النفس على الأنفاس والخواطر، والمحافظة على الفرض والنفل، يأتي الناظم إلى الحديث عن شرط سادس في السلوك وهو الإكثار من الذكر، فيقول:
وَيُكْـثِــرُ الذِّكْـرَ بِصَفْـوِ لُبِّـهِ وَالْعَـوْنُ فِي جَمِيعِ ذَا بِـرَبِّـــهِ
فبعد الكلام عن المحافظة على النوافل، ينتقل الناظم مباشرة إلى الحديث عن نافلة الذكر والإكثار منه، وكأن المراد بالنوافل في الغالب هو ما تصفو به الألباب والبواطن من البُعد والغفلة عن الله تعالى..
ويُعرِّف الصوفية الذكر بأنه: “التّخَلُّص من الغفلة والنسيان بدوام حضور القلب مع الحق”[1]،وقد أجمل الحق عز وجل القصد مِن الذكر في آخر سورة الأعراف في قوله: “وَاذكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالاَصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ” [الاَعراف، 205]، ثُمّ ثنّى بحال الملائكة للترغيب في مُشابهتهم والاقتداء بهم، فقال: “إِنَّ الَذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ” [الاَعراف، 206].
قال ابن كثير: “المراد الحضُّ على كثرة الذكر مِن العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا مِن الغافلين، ولهذا مَدحَ الملائكةَ الذين يُسبِّحون الليل والنهار لا يفترون، وإنّما ذَكَرَهُم ليُقتدى بهم”[2].
وقال العلامة ابن عاشور: “والمعنى: الحثُّ على تكرار ذِكر الله في مختلف الأحوال؛ لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى”[3]، وقال كذلك: “والمعنى: اذكُر ربك وأنت في خلواتك كما تَذْكُره في مجامع الناس”[4]، ودلَّت الآية كما قال: “على التحذير من الغفلة عن ذِكر الله، ولا حدّ للغفلة، فإنّها تُحَدَّد بحال الرسول صلى الله عليه وسلم..”[5]، فليس للمسلم استغناءٌ عن الذكر حتى يتحقق بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلاّ صار في درجة من درجات الغافلين؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يَذكر الله في كل أحواله وأحيانه[6]، كما جاء ذلك في الحديث الـمُتّفق عليه.
فالذكر هو أشرف الطرق الموصلة إلى الله تعالى؛ والنصوص الشرعية أكدت وأفردت نجاعته في طهارة القلوب والبواطن وجلائها من الصفات الذميمة، ولذلك كان أعظم الوسائل إلى المعرفة بالله تعالى، وهو عنوان الولاية، فمن وُفِّق للذكر فقد أعطي منشورها..
لذلك فالصوفية الكرام جعلوا الذكر: العمدة في الطريق والرُّكن الركين في السير والسلوك، والأساس المتين في التخلية والتحلية والترقي، وجميع الخصال المحمودة عندهم راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن الذكر؛ مِن ذلك قول الإمام أبو القاسم القشيري: “الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في هذا الطريق، ولا يصِل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر”[7]، وقال كذلك: الذكر هو: “الخروج مِن ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف وشدة الحب”[8]، قيل لأحدهم: “هل أنت صائم؟ فقال: إني صائم بذكره، فإذا ذكرت غيره أفطرت”.
والسالك لا يستغني عن الذكر مهما كانت رتبته ومقامه؛ وإنّ من مقاصد الذكر تزكية النفس وطهارتها، فتأخذ النفس من التزكية والطهارة في كل مقام بحسب ما تقتضيه وظائفه.
إن روح العبادة والمقصود الأعظم منها إنما هو جلال الله وتعظيمه والثناء عليه، لذلك قال الصوفية الكرام: “أفضل ما أعطاه الله لعباده في الدنيا الذكر، وأفضل ما أعطاهم في العقبى النظر إليه، فذكر الله في الدنيا كالنظر إليه في الآخرة“[9].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم مائة مرة لِمَا يُغانُ على قلبه[10]، ومن ثَم فمن باب الوجوب على السالك إعطاء قلبه الزاد اليومي والطاقة اليومية مِن الذكر حتى يبقى في مَنْأى عن الغفلة، وفي صقالٍدائم، محافظاً على حالة إيمانية رفيعة، وحياةٍ وفلاح،وارتباطٍ قويبالله سبحانه وتعالى؛ فكان هذا مما حافظ عليه الصوفية الكرام وشمروا من أجله، ولقد أمَر الله تعالى بالتزام ومواظبة الذِّكر وذلك: في قوله تعالى: “وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالاَصَالِ” [الاَعراف، 205]، “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالاِبْكَارِ” [غافر، 54]، “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ” [ق، 39]، “وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا” [الاِنسان، 25]، “يٰأَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً” [الاَحزاب،41-42].
كما تقرر ذلك في التعبير القرآني في عدة نصوص.
———————————–
1. مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح، ابن عطاء الله السكندري، ط1، مطبعة السعادة، ص: 3.
2. تفسير ابن كثير، طبعة دار الفكر، بيروت 1989م، (3/446).
3. تفسير التحرير والتنوير، (9/243).
4. المصدر السابق، (9/241-242).
5. نفسه.
6. رواه البخاري في الآذان تعليقا (1/86)، ومسلم في كتاب الحيض (373)، وأحمد في المسند (10/328)، وأبو داود في الطهارة (18)، والترمذي في الدعوات (3384)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (302).
7. الرسالة القشيرية، الطبعة 2، دار الجيل، بيروت 1990م، ص: 221-222.
8. نفسه.
9. انظر: غيث المواهب العلية، ص: 72، والرسالة القشيرية، ص: 218.
10. مِن حديثٍ نبوي رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده بلفظ: “إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة”، ورواه أبو داود في السنن وغيره بلفظ: “إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة”. (صحيح مسلم، دار ابن حزم، ص: 1449).
أرسل تعليق