هوادي التعرّف (1)
نشأ علم التصوف، كتجربة روحية، على أيدي علماءَ عاملين حفظَ الله بهم هذا الدين، ووضعوا له مبادئ وقواعد دقيقة، وضوابط وشروط صارمة، شأنه شأن بقية العلوم الشرعية سواء بسواء. ومن بين الذين ألّفوا في علم التصوف ومبادئه ومعارفه: العلامة الفقيه عبد الواحد بن عاشر الأندلسي الفاسي (990-1040هـ)، وهو من علماء وفقهاء القرويين، ويُعدُّ كتابه المنظوم “مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف” مرجعا مُهِمّاً عند أهل السلوك، حيث اشتهر وعُرف به داخل المغرب وخارجه، وتلقته الأمة بالقبول، واعتنى به الناس حفظا وشرحا وتعليقا وختما.
وقد حرص ابن عاشر بإجماع علماء المغرب عموما على تحصيل علم التصوف على “طريقة الجنيد السالــك”، فألزموا أنفسهم وألزموا غيرهم به، حيث جعلوه عندهم من الثوابت التي تمتزج فيها أعمال الجوارح بأعمال القلوب، قال رحمه الله:
وبعد فالعـــون من الله المجيــد في نظم أبيـــات للأمــي تفيـد
في عقـد الأشعري وفقه مالك وفي طريقـــة الجنيد السـالـك
وإذا ألزم بها الأمي، فالعلماء بها ألزم، فافهم.
وفي ما يلي شرحٌ مختصرٌ لمنظومة “مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف” لَعلَّهُ يكون للقلوب دواء، وللعقول اهتداء. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
توطئــــة:
التصوف والعلوم الإسلامية
التصوف مشرب روحي ومنهج إسلامي أصيل، فهو العِلم “التجريبي” الذي يهتم بالارتقاء بالسلوك الإنساني من مجرد الاكتفاء بالرسم والشكل في الدين إلى تنوير القلوب، أي إلى تحسين الأداء الديني للمسلم قلبا وقالبا؛ لذلك قال إمام دار الهجرة الإمام مالك: “من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”[1]، في إشارة إلى ضرورة مرافقة المعاني القلبية، التي هي من المجالات التي يبحثها علم التصوف، لأعمال الجوارح التي هي من المجالات التي يبحثها علم الفقه.
وقال الإمام الشافعي في ديوانه[2]:
فقيهاً وصوفيّاً فكُــن ليسَ واحــداً فإنــــي وحـقِّ الله إيَّــاك أنـصَــــــحُ
فــذاك قاسٍ لــم يذق قلبُه تُقـى وهذا جهول، كيف ذو الجهل يصلحُ
فالتصوف إذاً هو “فقه القلوب” و“علم السلوك” إلى مراتب القرب والوصول، فهو إعادة بناء الإنسان وربطه بمولاه في كل فكر وقول وعمل ونية، إنه التقوى في الحس والمعنى، ومراقبة الله في السر والعلن؛ وهذا المعنى التكاملي قد مُورس في العهد النبوي والصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مما جاء به الوحي ونزل به القرآن وحثت عليه السنة؛ فهو مقام الإحسان من الدين، ومقام التقوى في القرآن، ومقامُ الربانية في الإسلام.
ومصطلح التصوف حادث[3]، أما مادته فقديمة قِدم الكتاب والسنة، شأن بقية علوم الدين سواء بسواء، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ فمن المعلوم أنّ العلوم الإسلامية كلها لم تكن معلومةً بمُسمّياتِها وألفاظها وتفصيلاتها في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحابتِه وإنما كانَ العلمُ إجمالاً، وما ماهيتُها ومضمونُها ومَدارُها إلاَّ الدينُ الكامل؛ ففي زمنِ الصحابةِ لمْ يعرفِ الناسُ علومَ النحوِ والبلاغةِ والبيان، ولا علومَ الفقهِ وأصولَه، ولا علوم القرآن وعلوم التوحيد والحديث وغيرها،… وإنَّما دَعَتْ أحوالُ الناسِ إلى ظهورِ هذهِ العلوم على أيدي علماءَ عاملين حفظَ اللهُ بهمْ هذا الدين، وما لفظُ التصوفِ إلاّ اسمٌ لِعِلمٍ نشأَ كذلك عندَما دعَتِ الحاجةُ إلى تخصيصِهِ باسمِهِ ورسمِهِ.
ففي زمن النبوة، كان للممارسة الدينية حالُها القلبي والأخلاقي والسلوكي، كما دلّت على ذلك عدة نصوص، وضعُف على مرِّ الزمن هذا الحال الذي يُعتبر المظهر الأعظم لهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومِن ثَمَّ وُجد هذا العلم (التصوف) لإرجاع الأمرِ إلى نِصابِهِ في قضيةِ العمل والحال القلبي للمسلم، سَمّهِ: تصوفا، أو تزكيةً، أو عِلمَ السلوك، أو عِلمَ التربية، أو ما شِئت… هي قضية مصطلحات ولا مُشاحةَ فيها. فلا قيمة للعِلم، ولا خير في العمل إذا لم تُغرس التربية والتزكية والسلوك في القلوب والوجدان، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء للتزكية وللتعليم معاً.
قال الشيخ زروق في قواعده: “التصوف عِلمٌ قُصِدَ لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول (علم التوحيد) لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك”[4].
ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ اللبيب لا يحتاج إلى كثير من الجهد ليكتشف الفرق بين التصوف السني الذي نتكلم عنه، والذي انتهجه وتبناه السلف الصالح، والذي لا يتحقق إلا بالأخذ عن العارفين بالله المتحققين، وبين “تصوف” الـمُدّعين والدخلاء المزيفين الذين أدخلوا فيه ما ليس منه، أو “التصوف” التقليدي المعروف الذي يغلب عليه طابع الشكل والرسم… وإنما نعني طريق السالكين المتحققين[5]، كما حدده إمامهم أبو القاسم الجنيد بقوله: “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”[6].
يُتبع
—————————————-
1. انظر: “قواعد التصوف” للشيخ زروق، القاعدة 4، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة 3، 2007، تحقيق: عبد المجيد خيالي، ص: 22، وحاشية العدوي على شرح الزرقاني 3/195، ومرقاة المفاتيح 1/478 لملا علي القاري.
2. “ديوان الإمام الشافعي”، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة 5، 2008م، ص: 42-43.
3. قال ابن خلدون عن التصوف في المقدمة : “هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية”. المقدمة، طبعة دار صادر، بيروت، ص: 356.
4. “قواعد التصوف” للشيخ زروق، القاعدة 13.
5. يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: “التصوف في نفسه علم شريف، وأن مداره على اتباع السنة وترك البدع، وعلمت أيضاً أنه قد كثر الدخيل فيه من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأدخلوا فيه ما ليس منه، فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع”، (“تأييد الحقيقة العلية”، الطبعة 3، مكتبة القاهرة، 2008م، تحقيق: عبد الله بن الصديق الغماري، ص: 57).
6. “تاج العارفين”، الطبعة 3، دار الشروق، 2007م، تحقيق: سعاد الحكيم، ص: 102.
المقال السابق
لا توجد مقالات
المقال التالي
هوادي التعرّف (2)
-
الحمد لله الذي قيض لهذا العلم من ينزع عنه الشبهات، ويميط عنه أذى الذين يريدون به سوءا، ويجلوه أبيضا ناصعا كما كان في عصر الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أرباب السلوك والتزكية، وكان اختيار ابن عاشر دليلا على ريادة المغاربة في هذا الشأن، وكيفية تناول الموضوع تدل على أنهم لا يزالون روادا.
تحياتي وتقديري -
شكرا جزيلا للأستاذ الفاضل الدكتور إسماعيل راضي على هذا المقال الهام الذي يندرج في سياق التنظير للتصوف وتقعيده، وبيان أصوله القرآنية وروافده السنية، والحق أننا في حاجة لمثل هذه المحاولات الجادة لمقاربة ظاهرة التصوف الإسلامي بمنهج علمي متين، أمام تزايد عدد البحوث والدراسات التي تكرر نفسها أو تعيد اجترار قضايا هامشية، إن مقاربة الأستاذ الفاضل الدكتور إسماعيل راضي لعلم التصوف جديرة بالتأمل والدراسة، فهي مقاربة علمية شمولية تبدأ بالكل ثم تفتته لتجمع لب الموضوع وتقوم بصياغته مرة ثانية لكن بشكل منطقي متين وبناء تركيبي له دعائمه وقواعده. أسأل الله العلي القدير أن يحفظكم ويرعاكم، وأثير انتباه المهتمين بالمجال الصوفي إلى وجود وحدة للبحث العلمي في سياق الدراسات الجامعية العليا تهتم بالإبداع الأدبي الصوفي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس، وهي تحمل اسم: ماستر الإبداع الصوفي في الأدب المغربي
وحدة للبحث متخصصة في التصوف المغربي فكرا وإبداعا، يشرف عليها منذ إنشائها إلى الآن فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الفيلالي.
مع الشكر والتقدير لكل العلماء الباحثين في هذه الوحدة وغيرها من الوحدات التي تستهدف إضاءة عتمات في التراث المغربي وإبراز عناصر الفكر والإبداع في الحضارة المغربية. -
يندرج هذا العمل ضمن مشروع رصين يستهدف التأصيل السليم للتصوف الإسلامي المقيد بالكتاب والسنة، والبعيد عن البدعة والانتحال.
ويخلص فاحصه إلى وعي صاحبه بقيمة التصوف ،معرفة وسلوكا وتربية، في بناء الإنسان ذاتا ومجتمعا، خاصة في المجتمع المغربي الذي يشكل التصوف أحد ثوابته الأصول ومكونا جوهرا من مكونات هويته إنسانا ومكانا وزمانا…
وقد جاء اختيار الأستاذ اسماعيل راضي لابن عاشر وقسم التصوف من منظومته صائبا في هذا المسار التأصيلي.
والله الموفق . -
جزاكم الله يألف خير على هذا الإحياء، فما أحوجنا إلى الاهتداء إلى هذا العلم الذي يرقق القلوب
-
مشكور جدا على هذا الموضوع القيم؛ المرجو الإستمرارية
نتمنى من الرابطة أن تساهم في تنوير الرأي العام بهذا العلم الذي يهتم بفقه القلوب -
الحمد لله الذي جعل في الأمة من يرُدُّ للتصوف على قواعده العلمية، مجده وعزته، كما كان على عهد السلف الصالح وعلى مدار تاريخ أمتنا المغربية.
الحمد لله الذي بفضله اهتدى علماؤنا إلى إخراج التصوف من منبعه الصافي، ومن بين فرث ودم، خالصا للشاربين والسالكين، بعيدا عن دخن الدخلاء وعبث المزيفين وإنكار الجاهلين..
فمزيدا من التنوير والتوفيق، ومن أشرقت بدايته أشرقت نهايته،
ووفقكم الله إلى ما فيه خير العباد والبلاد -
جزاك الله خيرا على هذا التأصيل والتقعيد لهذه المعاني الربانية الرحمانية .
التعليقات