نعم لحرية التعبير عن الرأي، لكن من دون الإساءة إلى الغير
لا تنحصر أهمية خطاب حرية التعبير عن الرأي، في أن نلتمس لهذا الخطاب مظاهر في هذه الديانة أو تلك، كما لا تكمن العبرة في أن نستشهد لحجيته من نصوص هذا القانون أو ذاك المذهب فحسب. كل هذا مهم، ولكنه غير كاف؛ لأن الأهم والأكثر نجاعة هو أن نتبصر أيضا بأن حرية التعبير عن الرأي لا تمارس ولا يمكن أن تمارس في المطلق، وإنما تمارس على هدي من ضوابط.
إن التعبير عن الرأي، خاصة في سياق التطور الإعلامي، معرض لسوء استعمال الحرية ولسوء التصرف فيها. لذا لا بد من قيود تحدد نوع تطبيقها، ولا بد من ضوابط تبرز حدودها. نجد ذلك في القوانين الوضعية والمواثيق الدولية المتنوعة، كما نجده أيضا في الديانات السماوية ومنها الديانة الإسلامية الخاتمة.
وفي نظري يتقيد التعبير الحر عن الرأي في الإسلام بثلاثة ضوابط:
1. الموضوعية؛
2. والحفاظ على مصلحة المجتمع؛
3. وعدم الإساءة.
ينضبط التعبير الحر عن الرأي في الإسلام أولا وقبل كل شيء بعدم الإساءة إلى الغير. وأعني بهذا الضابط تجنب كل ما يدل في عرف الناس وفي فطرتهم على الإساءة، بحيث يكون المقصود الأصلي هو السب والتنقيص والتحقير. والذي يشهد لهذا الضابط نصوص القرآن المجيد ونصوص سنة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن نصوص القرآن المجيد قوله تعالى: “ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون”[سورة الاَنعام، الآية: 10]. وقوله: “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون” [سورة الاَنعام، الآية: 109].
ومن نصوص السنة النبوية قول الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر”[1] . وعن عائشة أنه صلى الله عليه صلى الله عليه وسلم قال: “أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم” [2]..
وقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويديه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه” [3]. وسئل صلى الله عليه وسلم أيضا فيما رواه أبو موسى الأشعري: “يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده” [4]. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء” [5].
يبدو أن هذا الضابط غير متناقض مع واجب بيان الحق المقترن بالصدر الرحب واللسان الطلق والحجة الدامغة.
وهو الأسلوب الذي نهجه القرآن المجيد في الرد على أهل الكفر ونقض مذاهبهم وأديانهم. وهكذا فإن المقصد من نهي القرآن المجيد عن سب آلهة المشركين هو كف المؤمنين عن سباب الكفار حتى لا يكتووا بنار أقوالهم البذيئة وممارساتهم المنكرة. ولا يتناقض هذا المقصد القرآني مع المثابرة في دعوتهم إلى الحق والخير بالأساليب الحسنة في التواصل وفي التعارف. فالقرآن المجيد لئن دعا إلى إبطال معتقداتهم؛ فإنه سرعان ما نبه في الوقت نفسه على حتمية تجنب المسلمين سب ما يدعونهم من دون الله.
وهكذا، وانطلاقا من الوعي بهذا الضابط، عندما تنشر جهة ما صورة مسيئة لهذه الديانة أو تلك، كما حدث مع الرسوم الكارتونية في الدانمارك، لا تكون هذه الجهة ممارسة لحقها في حرية التعبير، وإنما ارتكبت جريمة القذف بالسوء، والسوء متعدد الألوان والأشكال: قد يكون كراهية أو معاداة أو كذبا وبهتانا أو تهجما.
والحاصل أن ممارسة حرية التعبير عن الآراء في الإسلام مقيدة أولا وقبل كل شيء بعدم الوقوع في مهاوي السب والتنقيص والتحقير بكل ما يلزم عن كل ذلك من قذف وشتم واستهزاء وسخرية وبذاءة ومعرة وغيرها من الأوصاف التي يمكن أن تسيء إلى كرامة الإنسان بغض النظر عن عقيدته ومذهبه ولونه ولسانه وجنسه وجنسيته. ومن ثم يمكن أن ندرج ضمن هذا الضابط أيضا عدم اللغو والزور وترويج الضلالات من كذب وبهتان لقوله تعالى: “والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما” [سورة الفرقان، جزء من الآية: 72]، وقوله تعالى: “وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين”[سورة القصص، الآية: 55]. كما ندرج تحت هذا الضابط عدم الاعتداء على الكرامة الإنسانية بالقذف.
لا يمكن لحرية التعبير عن الرأي في ضوء هذا الضابط أن تكون ذريعة للعبث بأعراض الناس لقوله تعالى: “لولا إذ سمعتموه…” [سورة النور، 12 إلى 26] يترتب على جريمة القذف اعتداء كبير على الكرامة الإنسانية، وينجم عن هذا الاعتداء مفاسد كبيرة، لعل أعظمها نشر الأحقاد والإحن.
يقتضي إعمال هذا الضابط أن يكون المعبر عن رأيه لينا، يدافع عن وجهة نظره بالتي هي أحسن لقوله تعالى: “فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى” [سورة طه، الآية: 43] وقوله تعالى: “اَدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”[سورة النحل، جزء من الآية 125] ولقوله تعالى: “وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للاِنسان عدوا مبينا”[سورة الاِسراء، الآية: 53]. كما لا ينبغي أن يتحول الاختلاف في تقدير الصواب أو الخطأ في مجال حرية التعبير عن الرأي إلى حق أو باطل؛ لأن المهزوم في الحوار والتعبير الحر لا يمكن أن يعد منحرفا عن الحق أو منحازا للباطل.
————
1. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، رقم الحديث 48.
2. صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب” وهو ألد الخصام”، رقم الحديث 4523 وصحيح مسلم، كتاب العلم، باب في الألد الخصم، رقم الحديث 2668، بلفظ: “إن أبغض الرجال…” وسنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، رقم الحديث 2976.
3.صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، رقم الحديث 10.
4. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، رقم الحديث 11 وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، رقم الحديث 163.
5. سنن الترمذي، باب جاء في اللعنة: رقم الحديث 1900، ج 7 ص: 246. ومسند أحمد بن حنبل رقم الحديث 3646، ج 8 ص: 181.
-
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
نعم أستاذي العزيز حرية التعبير باتت شعارا لكل من تسول له العبث باستقرار وأمن الناس ,على أن تكون نعمة أنعم بها الباري عز وجل على عباده .
موفق دائما أستاذي مولاي اسماعيل الحسني في اختيارك لمواضيعك.
التعليقات