نظرات في تربية الإسلام
إن التوجيه بالقول يكون على نوعين: توجيه مباشر، وتوجيه غير مباشر، فالتوجيه المباشر أن توجه الكلام مباشرة إلى الشخص الذي تريد أن توجهه، ولو اقترن هذا التوجيه مع حوادث ومواقف معينة؛ فإنه أدعَى لِلرُّسوخ والانطباع في الدهن والولوج في الضمير، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة عندما نزل إلى السوق فوجد صبرةَ طعامٍ، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما هذا يا صاحب الطعام؟” فقال: “أصابته السماء يا رسول الله” هذا موقف أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يمر دون أن يوجه فيه توجيها بناء، “فقال صلى الله عليه وسلم لصاحب الطعام ألا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس“[1].
ثم أراد عليه الصلاة والسلام أن يغرس قيمة دينية ثابتة في نفس ذلك الرجل، بل في ضمير كل إنسان، فقال صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا“[2].
فهذا التوجيه النبوي المباشر، لم يكن قصده التشهير، ولم يكن على مرأى من الناس، بل كان لطيفا وليس فيه غلظة، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجرح بتوجيهه، ولا يوجه الكلام مباشرة للمقصود، بل يوجهه إلى مجموع الناس ليأخذ كل إنسان من التوجيه نصيب.
ومما ورد في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن قبيلة الأشعريين قد توفر فيها العلماء الكثيرون، وبجوارها قبيلة أخرى لا أثر للعلم فيها، فلم يشهر عليه الصلاة والسلام بواحدة من هاتين القبيلتين، بل صعد المنبر فقال صلى الله عليه وسلم: “مَا بَالُ أَقْوَامٍ لا يُعَلِّمُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلا يُفُقِّهُونَهُمْ، وَلا يَفُطِّنُونَهُمْ، وَلا يَأْمُرُونَهُمْ، وَلا يَتَفَطَّنُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَيُعَلِّمِنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ، وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ، وَلَيَنْهَوْنَهُمْ، وَلَيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَلَيَتَفَقَّهُنَّ، وَلَيَتَفَطَّنُنَّ أَوْ لأُعَاجِلَنَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا“[3]. فتلفت الناس حولهم دون أن يعلموا من المقصود بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم الأشعريون وجيرانهم أنه عليه الصلاة والسلام، كان يومئ بهذا الحديث من تهديد وتوجيه إليهما.
وفي كل أحوال التوجيه بالقول سواء أكان مباشر أو غير مباشر، على الموجه أن يرعى مستوى الوجه ليستطيع الارتقاء به للمستوى المطلوب فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من كان له صبي فليتصابى له“[4] ومما جاء عن الجنيد قال: وبالخلق حاجة إلى الرفق وليس من الرفق بالخلق ملاقاتهم بما لا يعرفون ولا مخاطبتهم بما لا يفهمون”.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المثل الأعلى في السلوك الخلقي إذا دخل بيته بعد تعب النهار يمسك الرحى ليعمل مع زوجاته ويقول: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي“[5].
—————————-
1. أخرجه مسلم ح: “102” في الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم “من غشنا فليس منا”.
2. أخرجه أبو داود ح: “3452” في البيوع: باب النهي عن الغش.
3. تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري، باب ذكر ما رزق أَبُو الْحَسَنِ رحمه اللَّه من شرفرقم الحديث: 63.
4. ميزان الحكمة: ج: 10 ص: 700 عن الوسائل ج: 15 ص: 203، وعن من لا يحضره الفقيه: ج: 3 ص: 312، وعن كنز العمال ح: 45413، الكافي: ج: 6 ص50.
5. حلية الأولياء لأبي نعيم، ح: 10131.
جريدة ميثاق الرابطة، العدد 805 الخميس 24 شعبان 1418هـ الموافق 25 دجنبر 1997م، السنة الثلاثون.
أرسل تعليق