نظرات في التحدي التربوي.. (7)
قال الله تقدست أسماؤه: “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون” [الاَعراف، 57].
هذه نظرة أخرى من النظرات المتوجهة لتحليل التحدي التربوي في سياقنا الحديث، تتعلق بواقع الأسرة المسلمة في الغرب الذي ينفرد بجملة من السمات والخصائص، والمقصود لفت الانتباه إلى نمط جديد من المشكلات التي تكابدها الأسرة، والدلالة على بعض المبادئ والأفكار التي تضيء لها الطريق، وتعصمها من مطباته ومزالقه..
عندما تفقد الأسرة المسلمة أولادها الذين يتم توزيعهم بقرار قضائي على أسر محلية، وعندما يضرب الرجل زوجته فتسارع الزوجة بالاتصال بإحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، أو بالشرطة التي تلبي نداء الاستغاثة في الحين، وحين يقع الطلاق بين الزوجين، ويلوذ الزوج إلى العيش وحده، وتعيش الزوجة وحدها، فيلجأ أحدهما أو كلاهما إلى مسالك تخل بدينهما وعرضهما، وينعكس ذلك على حياة الأولاد فيهجرون آباءهم!!
وعندما يبتلى أبناء هذه الأسر بالمخدرات والإدمان على تعاطيها والاتجار فيها، ويلتحقون بعصابات العنف والإجرام، وتحتشد السجون الأوروبية بعدد غير يسير منهم!!
وعندما يغادر أبناؤنا مقاعد الدراسة مبكرا، ويعجزون عن متابعة تعليمهم الجامعي، ولا يقدرون أهمية الحصول على شهادات أكاديمية عليا..
عندما تصل أوضاع الأسرة إلى هذا الحد من العطب والاختلال، وتجد نفسها مطوقة بهذه الأنماط والصور الخطيرة المثيرة للأسى؛ فإن الأمر بحاجة شديدة إلى وقفة جماعية تشترك فيها المساجد والمراكز والمؤسسات والأفراد لتدارك ما يمكن استدراكه، وإنقاذ ما تبقى من المصالح والمكاسب قبل فوات الأوان.
ولعل من نافلة القول:
1. إن من أهم أسباب أزمة الأسرة المسلمة أن قيم السوق، وأصولية السوق التي أفرزها النظام الرأسمالي الاستهلاكي تسللت إلى حمى الأسرة وعلاقاتها. وفي مقدمة هذه القيم: قيم الرغبة الجامحة في جمع المال والاستكثار منه، وتقويم كل شيء بقيمه المادية، وهي رغبة لا سقف لها، ولا حد يحدها. ويتولد من هذه القيمة الأصل التي كان الأقدمون ينعتونها بقولهم “حب الدنيا رأس كل خطيئة” مفاسد وموبقات أخرى أشد فتكا وأبعد أثرا كقيمة المنافسة التي تتحول إلى صراع جنوني مدمر، وثقافة نفسية وفكرية لاستبعاد “الآخر” وتصفية وجوده؛
2. وثاني الأسباب: تراجع دور القيم الحافظة للأسرة واستقرارها، وتصاعد الاستعداد النفسي والفكري لإنهاء ميثاق الزوجية عند أولى بوادر الشقاق والخلاف بسبب طغيان الأثرة، والأنانية، والتكبر، والحرص، والتردي إلى الاعتقاد القائل: “الحياة فرصة، والإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة، فلماذا أحمل نفسي على علاقة لا أجني منها الحد الأقصى من المنفعة واللذة“.
وهذا التوجه شديد الخطورة على استقرار الحياة الأسرية، وشديد التهديد لكل القيم الفطرية التي قامت عليها الأسرة منذ أول يوم!!
3. وثالث الأسباب: تراجع الشعور بالمسؤولية الأسرية، وتراجع الانتماء العائلي، وتردي العلاقة بين الزوجين، وتردي العلاقة بين الآباء والأبناء، وهو تراجع ملحوظ يشهد له عدد المنازعات القضائية داخل المحاكم وخارجها.
ويظن بعض الناس أن حفظ الأسرة وحل مشكلاتها العميقة يتم بوضع القوانين وتغيير القوانين، والواقع أن المشكلة الأسرية تتعلق أولا وقبل كل شيء بمستوى الوعي الجمعي والثقافي بمكانة الأسرة ووظيفتها، وبالمسؤولية المشتركة الملقاة على عاتق كل أفرادها من الرجل والمرأة والآباء والأولاد، نعم! تعاني الأسرة المسلمة اليوم من محن وابتلاءات كثيرة؛ لأنها تعاني من أزمة قيم المسؤولية، وهذا الواقع لا يمكن تجاوزه بإحداث القوانين، وإنما بمراجعة جذرية لمنظومة القيم والسلم المعياري لأولوياتها ومصالحها، وإعادة الاعتبار للقيم الثقافية العائلية التي كانت يقوم عليها نظامنا الاجتماعي، والتي كان الوعي بالمسؤولية المشتركة عن رعاية الأسرة وحفظها ودعمها وتعزيزها قيمة القيم، وخصوصية ثقافية وحضارية متواترة لدى جميع طبقات الأمة. وبناء على ذلك قرر فقهاؤنا أن الشارع الحكيم متشوف لبقاء الزوجية. فعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبغض الحلال إلى الله الطلاق“رواه أبو داود في مسنده، وفي رواية أخرى عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض من الطلاق..”، وقالوا كذلك: “الزوجية ثابتة بيقين، وما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين مثله“.
وإزاء هذا الوضع المتردي الذي آلت إليه أحوال الأسرة المسلمة في الداخل والخارج، لا يسعنا إلا أن نرسم هنا خارطة طريق مستعجلة، مبنية على جملة من التوجيهات والمقترحات التي هي من بدائه الضرورة، ومراعاة المآل، ومراعاة الأهم فالمهم..
1. بداية إن أخطر جهد يتصل ضرورة بالتربية هو درء المفاسد، وتحصين المكتسبات.
عندما تدلهم السبل، ويستفحل الداء، ويتسع الخرق يتنادى الناصحون بإعمال قاعدة التحصين، ومعناها المناسب هنا تحصين الأسرة بسياج من القيم الأخلاقية والمسؤولية الفكرية التي تسهم في تنمية وتجديد معاني الحياة الأسرية واستمرارها، واستقلال كيانها، والتفاعل الايجابي لجميع أعضائها.
وأتصور أن سياسة التحصين ينبغي أن تنصب على خمس دوائر سيأتي الحديث عنها في الحلقة المقبلة بإذن الله وإلى ذلكم الحين أستودعكم الله والسلام.
يُتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى
أرسل تعليق