نظرات في التحدي التربوي.. (15)
قال الله تقدست أسماؤه: “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ” [الاَعراف، 57].
“الفرنجة” أو اغتراب القيم
يقول ابن خلدون: “إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه وسائر أحواله وعوائده“[1].
الواقع أن السمات التي تتبعناها وتصفحناها في الحلقات السابقة ليست إلا نتيجة طبيعية لبنية أسرية واهنة فقدت تماسكها، وانهارت من الداخل، واختل نظامها الوقائي، وتعطل إسهامها البنائي، وهذا مبني على ما ذكرناه آنفا من كون الظواهر الاجتماعية تخضع في نشوئها واستمرارها لقانون التأثر والتأثير، والدور، والتسلسل.
لقد أخضع العالم كله لهيمنة التغريب Occidentalisation))، لكن نصيب العالم الإسلامي من هذه الهيمنة كان أشد وأعمق، حيث تداعت عليه رياح الهيمنة من كل جانب، وكان الشعار الذي يلوح به دائما لتجرع التغريب في البلاد الإسلامية، تحديث الهياكل القديمة، واللحاق بركب الغرب الصناعي المتقدم، وضرورة التخلص من عقد الماضي والتراث، والتفتح على التجارب الخارجية بحلوها ومرها دون قيد أو شرط.
بيد أن نتائج هذه التجربة جاءت على عكس المأمول، إذ كان التغريب هو الطريق المضمون لخسران رهان التحديث، ومن ثم استمرار واقع التخلف وتعميق أخاديده وموجباته، وتعقيد مشكلاته وآثاره.
ولم يكن مشروع التغريب في البلاد المسلمة إلا عمليات طمس وتشويه لمقوماتها الحضارية ومعالم شخصيتها المستقلة، لتحل محلها قيم الغالب وعاداته ونظمه وسلوكه في الحياة، وليتعمق صراع القيم وتعارضها في وعي الفرد والجماعة.
لقد كانت الإفرنجية مشروعا عقديا وحضاريا شاملا، لم يكن متوجها إلى النخب والقيادات فحسب، بل كان يكتسح جمهور الناس صغيرهم وكبيرهم، وحاضرهم، وباديهم، وجاهلهم، وعالمهم، فشوشت عقائدهم، وأفسدت أذواقهم، ومسخت قيمهم، وبلبلت ألسنتهم، وفرقت شملهم، وقلبت أحوالهم رأسا على عقب. يبدو ذلك في اختيارات السلوك، والذوق، ومظاهر اللباس، وأشكال الاحتفالات والتقاليد، وقيم العلاقات السائدة، ولغة التخاطب في المؤسسات والإدارات..
ويجب القول: إن ذلك كله مما يشكل اليوم فتنة حادة للشباب وضعاف الرأي، مما يؤدّي إلى تغذية ظواهر انشراخ الوعي، والتفكك الثقافي والنفسي واغتراب القيم، إذ يلاحظ على مستويات كثيرة مواقف لدى الطرف المغلوب تجعله يبخس من بعض قيمه حتى الأصيلة منها، ويفتخر بقيم الطرف الغالب حتى السقيم منها، وهذا يدل على أن المغلوب لا يعاني اغتراب القيم فحسب، وإنما يعاني كذلك انهيارا معنويا نفسيا عميقا يجعله في أحسن الأحوال يقف موقف الدفاع عن قيمه ونسبه وحضارته؛ وهو الوضع الذي يصطلح عليه الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي بـ التمجد.
ومن ثم، فاحتقار النفس واهتزاز الثقة وأزمة الهوية، وهزال الروح، وانطماس البصيرة، وغياب الإبداع، والشغف بالأجنبي وتقليده، والثرثرة بدعوى التشبث بالأصالة من أهم الطوابع المميزة لشخصية المجتمع المسلم المغلوب، ودونكم الشكل التالي الذي يوضح جميع ذلك:
—————————-
1. ابن خلدون: المقدمة، ص: 133.
أرسل تعليق