Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

نظرات في التحدي التربوي.. (12)

قال الله تقدست أسماؤه: “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ” [الاَعراف، 57].

المبدأ الثالث: الإكراه بدل الإقناع

يطمح النظام الساهر على التربية في الأسرة إلى تكوين الإنسان الصالح ذي السلوك السوي والسيرة المرضية عند الله وعند الناس، ذلك هو الأمل الذي يراود الآباء كلما أثاروا موضوع التربية، لكن فن التربية ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكن بصلاح  النيات وصلاح الأعمال، وبسلامة  الأسباب التي يتوسل بها إلى الغايات الصحيحة.

ولاشك أن إخضاع الطفل وإكراهه على ما نريد، وكسر شوكته، والحد من حريته، فيه جهل واضح بأصول التربية وإهدار لكرامة الطفل وإنسانيته.

فإذا كانت المرجعية التربوية في الأسرة أو المدرسة لازالت تؤمن بالتعويل على الإكراه بدل الإقناع، والاستبداد بدل الحوار.. فلأن هناك “غيابا حقيقيا لمفهوم التربية، ولأنه ليست هناك تربية بالمعنى الصحيح أصبحت قاعدة التربية في الأسرة المسلمة عموما هي القمع[1].

ولعل من المناسب المفيد هنا، بيان كيفية إخضاع الطفل في نمطنا التربوي القائم، وآثار هذا السلوك القاسي على نمو نفسيته وشخصيته، وعلى معادلته الاجتماعية بصفته كائنا اجتماعيا يؤثر على المجتمع نفعا أو ضررا.

فعلى الصعيد النفسي، تتخذ الوسائل الرئيسة لإخضاع الفرد في التنشئة الأسرية أشكالا ثلاثة[2]:

أ. العقاب الجسدي؛

ب. التخجيل؛

ج. الاستهزاء..

أ. العقاب الجسدي: وهو الأسلوب المباشر الذي يتخذه الآباء عادة إزاء أخطاء الطفل، وهو إما أن يكون بالصفع أو الضرب أو الجلد، ولا يخفى ما في هذه الأساليب كلها من أضرار وخيمة شتى.

فصفع الطفل مثلا لأجل خطأ ارتكبه قد يرغمه على تصحيح الخطأ، “لكنه في الوقت ذاته يسبب له شعورا بالمهانة واحتقار الذات، وهو إذ لا يجد لهذا الشعور مخرجا يحوله إلى داخله أو يوجهه نحو من هو أصغر أو أضعف منه”[3].

ويؤدي العقاب الجسدي لا محالة بالطفل إلى الرضوخ لمن هم أعلى درجة منه، كما يولد لديه الكراهية للسلطة الأبوية وكل ما يشبهها أو يمثلها، فيتخذ الطفل من الكبار ومن المجتمع عامة موقفا عدائيا قد يدفعه إلى الجنوح. و”قد يستسلم الطفل أو يستكين للقسوة ويطيع، لكنها طاعة مصطبغة بالحقد والنقمة وتحين الفرص لارتكاب العمل المحظور، لا حبا فيه بل انتقاما لنفسه، فإذا به يلتمس اللذات المختلسة، أو يكف نفسه عن أغلب وجوه نشاطه، لأنه لا يعمل شيئا إلا عوقب عليه، أو يرى الخلاص في تملق والده، فيأخذ في تزلفه ويجد لذة في الخنوع، وهذا الموقف السلبي الخانع من الأب يمنع الطفل من تقمص صفات الذكورة، ويميت ثقته بنفسه، ويبث فيه الشعور بالنقص، ويقتل فيه روح المبادأة والاستقلال، ويجعله عاجزا عن الدفاع عن حقوقه[4].

من هنا يتعلم الفرد منذ وقت مبكر، تفريغ الظلم على من هم أصغر منه، وتقبل الضيم، وكبت الضغينة، وتتكون فيه صفات سلبية لها أبعد الأثر في تكوين شخصيته، وتوجيه حياته.

إن السلوك العدواني يجعل الطفل يشعر بالعجز وفقدان الأمن والحماية[5]، والطفل الذي يتلقى معاملة كهذه يعتاد البكاء والنحيب ويكتشف أن عليه لحماية نفسه، أن يستجدي الرحمة والغفران، وأن يعتذر لنفسه ويبكي ما استطاع.

ومن الأمهات والآباء من “ينبذون أطفالهم نبذا صريحا أو مضمرا بالقول أو بالفعل. ويبدو النبذ في كراهية الطفل أو التنكر له أو إهماله أو الإسراف في تهديده وعقابه أو إيثار إخوته عليه أو طرده من البيت، والنتيجة المحتومة لهذا فقدان الطفل شعوره بالأمن، وتوليد الرغبة في الانتقام في نفس الطفل وحقده على أفراد الأسرة والمجتمع. وقد لوحظ أن نبذ الطفل عامل مشترك في كل حالات الجنوح عند الأحداث والشباب[6].

والواقع أن جميع هذه الطرائق في التربية إنما تُنتج لنا ظاهرة خطيرة مازالت المجتمعات الإسلامية تصطلي بنارها، وتكتوي بغلوائها، وهي قابلية الفرد المسلم للاستبداد والرّضا عن الأوضاع التّاريخية الخانعة التي تموت معها الهمة، كما تموت معها التزامات النقد والتصحيح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ب. التخجيل: أما التخجيل فهو الأسلوب غير المباشر إلا أنه أكثر الأساليب فاعلية في ترويض الفرد وجعله أكثر امتثالا لإرادة من هم أعلى منه. والأثر السيكولوجي للتخجيل كونه يخلق في النفس شعورا بالذنب، “فيشعر الفرد أنه مذنب ليس فقط على صعيد السلوك العملي بل أيضا على صعيد النية![7].

والجدير بالذكر أنّ الطفلَ في البيئة المسلمة يتلقى تربية تجعله يشعر بالخجل أكثر مما يشعر بالذنب. فالدافع إلى الخجل هو أنّ الآخرين سيلاحظون ما ارتكبه من عمل سيء، لا لأنه يشعر داخليا بالندم على ذلك العمل السيئ، حاكما على نفسه كما يجب أن يحكم. وفي أجواء كهذه، تنعدم القدرة على محاسبة النفس والتفكير في إصلاحها وتزكيتها.

والطريقة المباشرة في التخجيل هي الاستخفاف بالطفل وإذلاله، مثال ذلك عندما يقال له وجها لوجه: (أبله أو غبي، أو لا يعقل شيئا، أو لا يأتي بخير) فيجعلونه يشعر بأنه تافه وردئ و(لا شيء)، وفي ذلك تحطيم لكيانه وإحباط لنفسه بحيث لا يختلف شعور الطفل في هذه الحال عن الشعور بالإحباط الذي يجده اليائس القنوط.

أما الطريقة غير المباشرة، فكأن يقارن بإخوته أو أقرانه مقارنة تحط من قدره، كأن يقال له مثلا: (انظر إلى فلان كم هو مجتهد، أو كم هو مؤدب، أو ليتك تكون مثل ابن الجار، أولا أحد يضاهي ابن عمك..). إن الإزراء بالطفل على هذا النحو، والتعريض بشخصه وأعماله يؤدي إلى زعزعة ثقته بنفسه وشل نشاطه، وجعله سهل الانقياد[8].

ج. الاستهزاء: أما الاستهزاء فهدفه المباشر التقليل من قيمة الفرد تجاه نفسه وتجاه الآخرين، ويبدو ذلك في وسطنا التربوي في نظرة الكبار إلى الطفل على أنه لما ينضجْ ، ولا يستحق الإقرار له بشخصية مستقلة، واختيار مستقل ولذا؛ فإن علاقتنا بهم تنطبع عادة بالتعالي عليهم والابتعاد عنهم، وهذا يعود إلى أن علاقة آبائنا بنا كانت على هذا المنوال.

إن جميع الطرق المذكورة معروفة ومتداولة في أغلب الأسر المسلمة، وَيُراد منها فرض الطاعة على الطفل ظنا منها أن ذلك يؤدي إلى صلاحه واستقامته، فالطفل المطيع المستكين صالح بالقوة أو بالفعل!! والطفل الذي يشق عصا الطاعة ويرد ويستفهم ويناقش، يتنكب طريق الجادة وهو” طالح بالقوة أو بالفعل!!.

يتبع في العدد المقبل..

———————————————

1. برهان غليون، حوار، رسالة الأسرة، ع: 4، الرباط، 1989، ص: 18-24.

2. أصل التقسيم لـ: هشام شرابي، مقدمات في دراسة المجتمع العربي، مرجع سابق، ص: 85.

3. المرجع نفسه، ص: 86.

4. المرجع نفسه، ص: 88.

5. ولعله بسب ذلك ترى الطفل المعتاد على الصفع مثلا، يرفع ذراعيه على وجهه خائفا مترقبا -بصورة عفوية- حين يتعرض لأدنى تهديد !!.

6. أحمد عزت راجح، أصول علم النفس التربوي، ص: 608.

7. هشام شرابي، المرجع السابق، ص: 86.

8. المرجع نفسه، ص: 139.

أرسل تعليق