نظرات في التحدي التربوي.. (11)
قال الله تقدست أسماؤه: “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ” [الاَعراف، 57].
المبدأ الثاني: الاستخفاف بالمسؤولية الجماعية
إن الاعتقاد بالمبدأ الأول والعمل به يقود إلى تبني أضرب من القناعات والسلوكيات المنسجمة مع روحه ومقتضياته، من ذلك على سبيل المثال:
خلو شعور الفرد عندنا من أي إحساس بالواجب إزاء هموم الأمة، والقضايا العامة المتصلة بمصلحة المجتمع، وسيطرة نزعة التفرج والاعتذار، والتنصل عن تحمل المسؤولية، والعجز عن أداء فروض الكفاية ومواقف الالتزام بالشأن العام، وضمور روح المشاركة والتفاعل الاجتماعي الذي يعده علماء الاجتماع شرطا ضروريا لتقدم المجتمعات ونهضتها.
فالملاحظ أن المسؤولية الاجتماعية لا تستساغ بسهولة عند طائفة من الناس، وهي عند طائفة أخرى ضرب من التهور والمخاطرة والفضول، وأحيانا “اشتغال بما لا يعنيك.. “، ولعل سبب هذه المواقف المتخاذلة يرجع في نظرنا إلى نمط التربية التي تلقفها الإنسان المسلم في البيت والمدرسة.
فالخطاب التربوي في الأسرة يشعر الابن دائما بأن واجبه الأساس هو التضحية في سبيل الوالدين والإخوة وبذل الجهد من أجل إسعاد العائلة ورفاهيتها، وهكذا ينمو الطفل وشعوره بأن مسؤوليته الأولى والأخيرة هي تجاه العائلة لا تجاه المجتمع، لذلك لا يبقى سوى مجال ضيق للشعور بالواجب تجاه المجتمع الكبير الذي يتصوره الفرد فكرة خيالية أو مثالية لا ينطبق عليها مبدأ المسؤولية بشكل صحيح؟!
ولذلك؛ فإن اجتهاد الإنسان وسعيه في المجتمع المسلم الحالي، يتمثل لدرجة رئيسة في خدمة الأسرة وتمويلها، وسدّ حاجاتها المختلفة، والتوافق الكامل مع التزاماتها وعوائدها وطموحاتها سواء فيما يتعلق بالأمور الجليلة أو الهينة.
وليس من الغلو القولُ: إن دستورنا التربوي يكاد لا يعترف بتصور إيجابي عن المجتمع حتى يرتبط به أو ينخرط معه في صيغ تكامل وتعاون.. إنه لا يعترف به، فضلا عن أن يحض على الانتماء إليه، والثقة به والتعاون معه.
إن المجتمع في عرف أسرنا ومواقفها وأحاديثها ميدان للصراع والتآمر والمبارزة وإثبات الذات وتعزيز وجودها، استمع إن شئت لما تتداوله اجتماعات الأسرة من حديث يومي عن الناس، والآخرين، والأغيار، وتأمل أمثالنا الشعبية، وطرائفنا الساخرة، تجدها تحريضا على التوجس من الغير، واتهاما للكون الاجتماعي بالغدر والاحتيال والمخاتلة وغيرها من الأحكام التي تكرس نظرة الفرد السلبية إلى الجماعة، وتعزيز علاقات التنابذ والتقاطع.
وليست المدرسة أحسن حالا من البيت، فهي أيضا لا تنشئ روح التعاون والتكامل بين التلاميذ، ولا تساعد على تقليم مخالب النزعة الأنانية فيهم، لترسخ محلها القيم الجماعية الإيجابية التي تدفع الطالب إلى الاستعانة بزملائه، وما المدرسة إن لم تكن محضنا مناسبا لتيسير عملية التطبيع الاجتماعي، وما التربية إن لم تسهم في السمو بالإنسان والترقي بخصاله من غوائل الفردية التي هي صنو الغريزة البدائية إلى الخصائص الاجتماعية الإيجابية التي تصنع الحضارة، أين المدارس القائمة على نظام تربوي ينتظم فيه الطالب في إطار خلية أو فريق يقدم كل عضو من أعضائه جانبا من البحث، ويشعر كل فرد فيه بأنه لبنة في بناء يأخذ ويعطي ويتحمل ويؤدي؟؟
لقد جعل الإسلام التربية التي تشعر بالانتماء إلى الجماعة، وتربي ملكة التفاعل، والتعاون لدى الإنسان أمرا مؤكد،ا ومقصدا عظيما من مقاصده الشرعية، قال الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” [اَل عمران، 103]، وقال: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاِثم والعدوان” [المائدة، 3] وقال: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” [الحجرات، 13]، وفي الحديث: “إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم“[1]، وفيه: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا لثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة“[2]. وفيه: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم“[3].
لكن تربيتنا تنمي الفردية، وتشعر كل فرد، بأنه يستطيع أن يعيش وحده، ويعمل وحده، ويمضي في أموره وحده.. ولقد نشأ من هذا فقد روح الجماعة في كثير مما نفعل، وتعذر قيام جماعة حتى ولو كانت تنتمي إلى مؤسسة واحدة بمشروع ما؛ لأن التعاون مع الجماعة عادة ثقافية، وقيمة تربوية مكتسبة، ولقد تعودنا نحن أن نعمل فرادى، وأن نفكر بعقلية المفرد لا بعقلية المجموع –esprit de communauté– التي تحرص المؤسسات التربوية المتقدمة على استثارة روحه، وترسيخ آدابه وتقاليده بمناهجها التربوية وسياساتها الثقافية، والإعلامية، والاجتماعية. ومن أبلغ وأصدق ما ذكره الأستاذ مالك بن نبي في شهادته على القرن قوله: “لم أكـن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرضه من تبعات إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد خصوصا بين مثقفيه“[4].
يتبع في العدد المقبل..
————————————————
1. رواه مسلم وأحمد، 1236.
2. أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما.
3. أخرجه البخاري في صحيحه.
4. انظر: “مذكرات شاهد على القرن”، ص: 236.
أرسل تعليق