نظرات في التحدي التربوي..(10)
قال الله تقدست أسماؤه: “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ” [الاَعراف، 57].
عندما تفقد الأسرة أولادها الذين يوزعون بقرار من المحكمة على بعض الأسر الأوروبية، وعندما يضرب الرجل زوجته فتتصل بالشرطة أو مؤسسات الإسعاف الاجتماعي التي تلبي نداء الاستغاثة في الحين، وعندما يقع الطلاق بين الزوجين، ويتصدع كيان الأسرة، ويتفرق الشمل، ويتوقف تاريخ من الآمال والذكريات.
وعندما يبتلى شباب الأسر المسلمة بالإدمان والمخدرات والاتجار فيها، ويلتحقون بعصابات الشوارع، ومجموعات العنف والجريمة المنظمة، وتحفل السجون الأوروبية بعدد كبير منهم.
وعندما يغادر أبناؤنا مقاعد الدراسة مبكرا، ويعجزون عن متابعة دراستهم وتعليمهم الجامعي، ولا يقدرون أهمية الحصول على شهادات عليا.
عندما تصل أوضاع الأسرة المسلمة إلى هذا الحد من العطب والاختلال، وتجد نفسها مطوقة بهذه الصور والأنماط الخطيرة المثيرة للرعب والأسى؛ فإن ذلك يستدعي وقفة تأملية يشترك فيها الجميع للتداول والتشاور في هذه الأخطار المحدقة، والتحديات الجديدة التي قد لا تسلم منها أسرة، وليس عند أحد ضمان؛ أنه بمنجاة منها.
ولعل من نافلة القول -أيها الإخوة الكرام- أن أزمة الأسرة المسلمة في الغرب هي من جنس أزمة الأسرة الأوروبية تشبهها في كثير من الجوانب.
ويمكن ردها إلى أسباب، منها:
أولا: أن قيم السوق وأصوليته التي أفرزها النظام الرأسمالي الليبرالي الاستهلاكي تسللت إلى حمى الأسرة ومفاهيمها، وفي مقدمة هذه القيم: قيم الرغبة الجامحة في جمع المال، والإكثار منه، والتباهي به، وتقويم كل شيء بقيمته، وهي رغبة لا سقف لها، ولا حد يحدها. وكذلكم قيمة المنافسة التي تتحول إلى صراع مدمر، وأنانية هابطة، وثقافة نفسية وفكرية لاستبعاد الآخر ومضايقته؛
وثاني الأسباب: تراجع دور القيم الحافظة للأسرة وتماسكها واستقرارها، وتصاعد الاستعداد النفسي والفكري لإنهاء ميثاق الزوجية عند أولى بوادر الشقاق والخلاف بسبب طغيان الأثرة، والأنانية، والعصبية، والتكبر، والشح “وَأُحْضِرَتِ الاَنْفُسُ الشُّحَّ” [النساء، 127]، والتردي إلى الاعتقاد القائل: “إنني أعيش مرة واحدة، فلم أحمل نفسي على علاقة لا أجني منها الحد الأقصى من اللذة والمتعة“. وهذا التوجه شديد الخطورة على استقرار الحياة الزوجية، وشديد التهديد لكل القيم الفطرية الأساسية التي قامت عليها الأسرة منذ أول يوم؛
وثالث الأسباب: تراجع الشعور بالمسؤولية الأسرية، وتراجع الانتماء العائلي، وفتور حميمية العلاقة بين الزوجين، وبين الآباء والأبناء، وهو فتور وتراجع تشهد له المنازعات القضائية العديدة داخل المحاكم وخارجها؛
ورابع الأسباب: تراجع سلطة القيم الاجتماعية، والنسيج الاجتماعي، ذلكم أن النسيج الاجتماعي هو حارس القيم، وهو الذي يمدنا بالهيبة والمشروعية، وهو مخزون الطاقة الأثرى لإنتاجها والحفظ عليها وتناقلها جيلا عن جيل. فالقيم بخير ما كان نسيجنا الاجتماعي بخير، والقيم بشر ما كان النسيج الاجتماعي بشر.
ويظن بعض الناس أن حفظ الأسرة وحل مشكلاتها يتم باللجوء إلى القانون، وإحداث قوانين جديدة، والواقع أن جميع مشكلات الأسرة تتعلق أولا وقبل كل شيء بالوعي الجمعي الثقافي بالمكانة الإستراتيجية للأسرة ووظيفتها في المجتمع، والمسؤولية المشتركة الملقاة على جميع الفاعلين في دعم الأسرة وتقويتها وتعزيزها.
وهذا الوعي جزء من عقيدة المسلمين، وكان وما يزال خصوصية ثقافية، وحضارية لكيانهم الاجتماعي، ولذلك تقرر في كتب الأحكام أن الزوجية ميثاق غليظ، وأن الشارع الحكيم متشوف لبقاء الزوجية، وقالوا: “الزوجية ثابتة بيقين، وما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين مثله“.
فهذه نظرة عجلى وخاطفة في كبرى التحديات التي تواجهها الأسرة المسلمة في المهجر، وأود فيما يلي أن أقترح بعض الأفكار في سبيل تجاوزها، أو على الأقل الحد من غلوائها وتداعياتها:
أول عمل ينصح به الناصحون في مثل هذا المأزق هو درء المفاسد، وتحصين المكتسبات، دائما عندما تدلهم السبل، ويستفحل الداء، ويتسع الخرق نلجأ إلى سياسة التحصين، والمراد منها هنا: تحصين الأسرة بسياج متين من القيم الأخلاقية والمسؤولية الفكرية التي تركز معاني الحياة الأسرية في شرايينها، وأسسها وعلاقاتها.
وأتصور أن سياسة التحصين ينبغي أن تنصب على خمس دوائر:
أولاها: دائرة التصورات والمفاهيم، هذه الدائرة تشمل نظرتنا إلى الأشياء، ورؤيتنا للعالم، وفهمنا لظواهره وأحداثه، وشخوصه. فالرؤية الكلية والمفاهيم الكلية هي نقطة الدائرة في هذا الموضوع؛
ثانيهما: دائرة القيم، بالوفاء لها وإحيائها، وتجديد الالتزام بها في قواعد السلوك ومفردات الحياة، والوفاء هو بقية الإيمان حين نعتقد أننا ضيعناه..
والقيم-أيها الإخوة– لا توصف بالقديمة ولا الحديثة، بل ثمة تقسيم مهم جدا يجب أن تجعلوه نصب أعينكم، وهو أن القيم: إما قيم جامدة فرط فيها أهلها ولم يلقوا لها بالا، وإما قيم متحركة وإيجابية اهتم بها أهلها، وأحلوها من أنفسهم محل الماء والهواء؛
ثالثها: دائرة اللغة: فاللغة هي وعاء التصورات والمفاهيم والقيم، وهي الوسيط الذي يصل الإدراك بكل العوالم والقضايا المعنوية والحسية؛
رابعها: دائرة الهوية الثقافية؛
خامسها: دائرة البرامج والمشاريع..
ولنخط خطوات متواضعة في هذا الباب على طريق الإصلاح نحو قول القائل: “إن العالم الراسخ هو الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره“.
ومن مفردات العلم فيما نحن بصدده أن الأسرة خلية نواتها وأساسها زوجان مسؤولان متفاهمان يتفاعلان مع وقائع الحياة الزوجية وتقلباتها وأحوالها بنفَس عال من البصيرة والحكمة والمسؤولية. إن هذا النفَس-بخصاله العميقة والمتميزة- هو سر تماسك الأسرة وتألقها. لذلك يستحسن أن نفك خيوط هذا السر، ويمكن أن نردها إلى الإشارات الآتية:
1. إن الذي يتزوج بنية الأخذ والاستمتاع، وتلبية غرائزه وحاجياته الخاصة يخطئ العنوان ويبدأ بداية خاطئة، وهو أكبر دليل على أنه لم يدرك السر العميق للحياة الزوجية الذي يتجلى في التضحية والبذل وتبادل المنافع وهذا معنى قولهم: “الزوجية مبنية على المكارمة، والبيع مبني على المشاححة“؛
2. مفتاح التفاهم بين الزوجين: الاهتمام والتقدير، والمقصود تقدير الرجل لزوجته، وتقدير المرأة لزوجها، لكن التقدير يصبح بلا معنى إذا لم يتأسس على فهمِ خصائص الشخص الذي نقدره وفهمِ اهتماماته وميوله؛
3. احترام الشريك ينبغي أن يشمل احترام رأيه ووجهة نظره وخصوصياته ومشاعره، ولا يوجد الحب والاحترام حيث تتلاشى الكرامة، وينبغي أن يتضمن مبدأ تقاسم المسؤولية داخل الأسرة، ولعلكم سمعتم مقالة عائشة رضي الله عنها عندما سئلت ما كان النبي يصنع في بيته؟ فقالت: “كان يكون في مهنة أهله -يعني في خدمة أهله-، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة“، وفي رواية: “كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم“؛
4. الاهتمام روح بيت الزوجية ومادة استمرارها وسعادتها، واذكروا دائما؛ أنه لاشيء مما نقول أو نفعل يُمحى من ذاكرة زوجتك، لا الكلمات الخشنة، ولا النقد الجارح، ولا الكلمات الرقيقة، ولا أوقات الجفاء ولا ساعات الصفو.
وختاما، أهم شيء في موضوع نجاح الأسرة ثلاثة أمور:
أولها: استقامة الوالدين ومسؤوليتهما وصلاحهما؛
ثانيها: تحليهما بالبصيرة والحكمة التي تمكنهما من حسن التعامل مع أولادهم؛
ثالثها: تأهيل الأولاد لحياة اجتماعية كريمة ولمستقبل أفضل..
والبداية في هذا الباب أن يدرك الأبوان أن رأس مال الجيل الجديد هو ما يملكه من علم دقيق، ومعرفة متطورة، وتكوين عال، فالعالم كله اليوم يتسابق إلى تمكين الأجيال الجديدة من التحصيل العلمي المتميز. وتعلمون أن التعليم النوعي الممتاز أصبح عالي التكلفة، وقد تُشد إليه الرحال في أقاصي الأرض.
وهذا يستدعي من الأسرة أن تخطط على نحو جيد لتعليم أولادها، وأن تكون لديها رؤية واضحة لما تريد أن يكون عليه مستقبل أولادها، وهذا يقتضي كذلك إعادةَ هندسة الفعل الثقافي والتربوي داخل المساجد والمراكز والمؤسسات الثقافية والتربوية المعنية بتأطير أولادنا وشبابنا للتركيز على الأهمية الإستراتيجية للمعرفة والتعليم والتكوين في أوساط الجالية المسلمة.
-
أسرنا رأسمالنا، هي كل ما نملك و إذا فقدنا هذا الحصن المنيع فقدنا كل شيء، فالأسرة المسلمة تتعرض في هذه الأيام لتحديات عديدة كيف نواجهها؟
ما هي الوسائل التي علينا أن نتبعها حتى نحصن أنفسنا؟
وكيف نحفظ الأسرة لتكون فتية حية في خضم الحياة؟
هذا ما سنرجو من أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الحميد عشاق أن يجيبنا عنه..
التعليقات