نحن والميراث النبوي (9)
قال الله العظيم في محكم التنزيل: “قُلْ اِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [اَل عمران،31].
في ذكرى ربيع النور، ومولد سيد الوجود يطيب الحديث عن الحب؛ حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: “قُلْ اِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ”؛ كأنه يقول: صدقوا دعوى محبتكم إياي باتباع حبيبي؛ فإنه لا سبيل إلى الوصول إلى محبتي إلا باتباعه وطاعته، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الباب الأعظم للحب الإلهي؛ فلا يصل إلى هذا الباب، ولا ينال أحد ما عنده إلا بمحبته صلى الله عليه وسلم، ولولا محبته صلى الله عليه وسلم ما صلحت محبة أحد، وكان الجميع أدعياء، وكيف يصح الإيمان أو الاقتداء أو الاتباع دون الحب؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”. وقال أبو حامد الغزالي: “محبة الله يدعيها كل واحد؛ وما أسهل الدعوى، وما أعز المعنى!!”.
والناس في الحب مراتب، وأحباء الله هم خاصة الناس وخواصهم، قال تعالى: “وَالذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ” [البقرة، 164]، يعني أرسخ وأثبت وأدوم، يعني ثابتين دائمين على الإيمان في السراء والضراء، والرخاء والبلاء، لا يوثرون عليه سواه، وقيل معناه: أن حبهم لله مقدم على كل شيء؛ كما في دعاء داود عليه السلام: “اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد”.
فأكمل وأعظم محبة في هذا الوجود ومعانيه أن تحب الله عز وجل: “وَالذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه” فهذا هو الحب الحقيقي الكامل، وما عداه زيف ووهم. واتباع النبي الطاهر الأطهر صلى الله عليه وسلم سبب في محبة الله تعالى لعبده، وسبب في غفران ذنوبه.
ومن أسباب محبة الله تعالى الكثيرة ما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: “لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه…” وفيه: “من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا” وفي رواية المسند: “والله أعلى وأجل”.
والله ما جئتكم زائرا إلا وجدت الأرض تطوى لي؛
ولا ثنيت العزم عن بابكم إلا تعثرت بأذيالي.
وكان ذو النون يخرج بالليل فيردد نظره في السماء ويردد هذه الأبيات:
أطلبوا لأنفسكم مثل ما وجدت أنا؛
قد وجدت لي سكنا ليس في هواه عنا؛
إن بعدت قربني أو قربت منه دنا.
ومن علامات محبة العبد لله تعالى: حبه لكتابه كما قال سهل بن عبد الله التستري: “علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بُغض الدنيا، وعلامة بُغض الدنيا ألاَّ يدَّخر منها إلا زاداً وبُلغة إلى الآخرة”.
ومن علامات محبة الله: أن يكون مشفقا على عباده، رحيما بهم، حريصا على نصيحتهم ومنفعتهم.
ومن العلامات: أن يكون في حبه لله خائفا متضائلا تحت الهيبة والتعظيم؛ فيخاف أن يعرض عنه مولاه، أو يحجبه عن معرفته، أو يبعده عن رحمته، وقد قال بعضهم في نظم هذه العلامات وشرحها:
لا تـخدعـــــــنّ فللــمحــــــبّ دلائـــــــــــــــــل **** ولديـــــــــــــــــــه من تحف الحبيب رسائـــــل
منهــــــــا تنعّمــــــــــه بمــــــــر بلائــــــــــــــه **** وســــروره فـــــي كــــــــل مـــا هو فاعـــــــــل
فالمنــــع منـــــــه عطيــــــــــــة مقبولــــــــــة **** والفقـــــــــــــــر إكـــــــــــرام ولطـــف عاجــــل
ومــــن الدلائــــــــــــل أن تـــــرى من عزمــــه **** طـــــــوع الحبيـــــب وإن ألــــــــحّ العـــــــــاذل
ومن الدلائـــــــــل أن يـــــــرى متبسّمــــــــــاً **** والقلـــــــــــب فيــــــــه مـن الحبيب بلابـــــــل
ومن الدلائـــــــــل أن يــــــــرى متفهّمــــــــــاً **** لكــــــــلام من يحظـــــــى لديـــــــــه السائــل
ومـــــن الدلائــــــــل أن يرى متقشفــــــــــــاً **** متحفظـــــــــــاً من كـــــــــل مـــــا هــــــو قائل
وأضاف إليها يحيى بن معاذ الرازي قوله:
ومــــن الدلائــــــــــــل حزنـــــــه ونحيبـــــه **** جوف الظــــلام فمـــا لــــــــــــه من عــــاذل
ومن الدلائــــــــــــــــــل زهــده فيما يــــرى **** مـــــن دار ذل والنعيــــــــــــم الزائـــــــــــــل
ومــــــن الدلائــــــــــــل أن تــراه باكيـــــــــاً **** أن قــــــــــــد رآه علـــــــــــــــى قبيح فعائل
ومـــــن الدلائــــــــــل أن تــــراه مسلـــمــاً **** كـــــــــل الأمـــــــــور إلى المليــــك العــادل
ومن الدلائــــــــــــــــــل أن تـــــــراه راضيــاً **** بمليكــــــــــــه في كــــــــل حكــــــم نــــازل
ومن الدلائــــــل ضحكـــــــه بين الـــــــورى **** والقلـــــب محزون كقلــــــــــب الثـــــاكــــل
فإذا ارتقى المحب هذه المرتبة رأيت إنسانا ذاهبا عن نفسه، متصلا بذكر ربه، قائما بأداء حقوقه، ناظرا إليه بقلبه، وصفا قربه من كأس وده؛ فإن تكلم فبالله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله…
وأما ادعاء المحبة مع ارتكاب المخالفة فدعوى كاذبة وتجارة كاسدة، قال سهل:
“ليس من عمل بالطاعة صار حبيبا، إنما الحبيب من اجتنب النواهي”، وكفى بهذا وحده معيارا لمعرفة الصادق من الكاذب، وأنشدوا في ذلك:
تعصي الإلـــــــــــــه وأنت تظهــــر حبه **** هذا لعمـــــري في القيــــــــــاس بديع
لــــــــو كــــــــان حبك صادقا لأطعتــــه **** إن المحـــــــب لمــــــــن يحب مطيـــع
وكالإجماع من اصطلاحات القوم أن الحب هو الموافقة، وأعظم الموافقات وأشدها بالقلب؛ يعني موافقة المحب بالقلب؛ لأن المحبة تقتضي انتفاء المخالفة؛ فإن المحب دائما مع محبوبه، وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: “إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان لا يقرأ بأصحابه في صلاتهم، -يعني لا يختم- إلا بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله تبارك وتعالى يحبه”.
وأخرجا أيضا عن أنس بن مالك أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: ما أعددت لها؟ فقال الأعرابي: ما أعددت لها من كبير أحمد عليه نفسي، -وفي رواية: من كثير من صلاة ولا صوم ولا صدقة- غير أني أحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنك مع من أحببت”.
-
ومن حقوق الرسول صلى الله علينا كأمة إسلامية محبته وطاعته والصلاة عليه، ومحبته عليه الصلاة والسلام تكون بطاعته فيما أمر به وتصديقه في كل أقواله وأفعاله واجتناب ما نهى عنه واحترامه وتوقيره ونصرته نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا محبيه صلى الله عليه وسلم أمين يا رب.
التعليقات