نحن والميراث النبوي (8)
قال الله تباركت أسماؤه: “اِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُومِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا” [الفتح، 8-9].
ذكر الله تعالى في هذه الآية حقا مشتركا بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان، وحقا خاصا به تعالى وهو “التسبيح”، وحقا خاصا بنبيه صلى الله عليه وسلم وهو التعزير والتوقير.
والتعزير: نصره وتأييده ومنعه من جميع ما يؤذيه، والتوقير احترامه وإجلاله صلى الله عليه وسلم وصون حرمته عما يخرج عن حد الوقار.
ويتحقق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتشريفه بتقديم محبته على النفس والولد والناس أجمعين؛ إذ لا يتم الإيمان إلا بذلك، ثم إنه لا تعزير ولا توقير ولا تعظيم بدون محبة، وإنما ينشئ هذه المحبة في القلب ويعززها معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة قدره وأحواله، وسيرته ومحاسنه…
فهاهنا ثلاثة أمور متكاملة يتحقق بها المقصود، وهي: المعرفة، والمحبة، والطاعة والاتباع، ولما تحققت هذه الثلاثة في الصحابة الكرام وخيار الأمة المنتجبين كان لهم النصيب الأوفى من محبته وتعظيمه عليه الصلاة والسلام، فقد سئل علي رضي الله عنه: “كيف كان حبكم لرسول الله؟ فقال: “كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ”. وقال أبو سفيان -وهو على الشرك حينئذ-: “ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا”.
كيف لا، وقد حكّم الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم وأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا وأرواحنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه؛ نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك، ولما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة فقالوا: “قتل محمد” حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة، فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها [يعني بخبر مقتلهم]، فقالت: “ولكن ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها أمامك فدفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذا سلمتَ، وفي رواية: كل مصيبة بعدك جلل” أي يسيرة.
وقال عمرو بن العاص: “ما كان أحد أحب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأنني لم أكن أملأ عيني منه”.
وذكر صاحب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني فقال: “ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أوثق منه، حج حجتين فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
وكان الحسن -رحمه الله- إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه يقول: “يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إلى لقائه؛ فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه”.
فلا بد أن يتدفق الحب أنهارا إلى أصدق الحب وأبقاه، وأخلص البر وأوفاه إلى الحبيب المنتجب صلى الله عليه وسلم.
أشواقنــــا نحو الحجــاز تطلعت **** كحنيـــن مغترب إلــى الأوطـان
إن الطيــــور وإن قصصت جنــاح **** هـا تسمو بهمتها إلى الطيـران
أيها المحبون، لما تباعد بنا الزمن، وطال علينا العهد، واستشرت الفتن، واغتر الأكثرون بالحطام والصور، غاب عنا الحب وإن ادعيناه، ونسينا الواجبات، فكانت من أحاديث الذكريات، نتحدث عن السنة والهدي والمحبة، لكن لا تكاد ترى جادا في الاتباع، ولا صادقا في الكلام إلا قليلا “ما أسهل الدعوى وما أعز المعنى”.
وكلا يدعـي وصلا بليلى **** وليلى لا تقر لهم بذاكــا
يولد النبي صلى الله عليه وسلم في شفاهنا وألسنتنا كل عام، ويموت في قلوبنا كل يوم، ولو ولد في أرواحنا لولدنا معه، وشهدت الأمة في أحوالها وأوضاعها ميلادا جديدا، ولكان كل واحد منا في كونه وسلوكه محمدا صغيرا…
إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون دعوة باللسان، ولا هياما بالوجدان وكفى، بل لا بد أن يصاحب ذلك الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على هداه وتحقيق منهجه في الحياة، وحب ما أحبه صلى الله عليه وسلم، وبغض ما أبغضه في الصغير والكبير، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”، وفي محكم التنزيل: “وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلَا موْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا اَنْ تكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنَ اَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا” [الاَحزاب، 36].
ألا يا محب المصطفى زد صبابـــة **** وضمخ لسان الذكــر منك بطيبــه
ولا تعبـــأن بالمبطلــــيـن فإنمـــــا **** علامــــة حـب الله حـب حبيبــــه
قال أحدهم ممن فقه السنة وأدرك مرامها: “أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق” وقال: “من أحبه الله تعالى أحب رسول الله، ومن أحب القرآن أحب السنة، ومن أحب السنة أحب العلم والآخرة”.
العلم ميراث النبــي كمـا أتى **** في النص والعلماء هم وراثــه
ما خلّف المختار غير حديثــــه **** فينــــا فذاك متــاعه وأثـاثــــه
يُتبع..
أرسل تعليق