نحن والميراث النبوي (2)
لقد تميزت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منذ البدء بمنهج كامل في رؤية الحقيقة كما أرادها للمجتمع الإنساني بجميع أطيافه في المستقبل؛ فهو لم يكن مجرد رسول برسالة محدودة في الزمان والمكان والأشخاص… لم تكن رسالته خاصة على نحو ما انصبغت به بعض الرسالات؛ فقد كان جهد “صالح” منصبا على الوزن بالقسط، وكان جهد “لوط” منصبا على محاربة الشذوذ الجنسي، وكان جهد “موسى” منصبا على مكافحة الفرعونية وإنقاذ بني إسرائيل.
أما رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم فقد تجاوزت أمور الأصنام والوثنية والقضايا التاريخية والعرفية والإقليمية التي كانت شائعة لدى العرب إلى مصير الإنسان في علاقته الكلية بالله “لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من اَنفسهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” [اَل عمران، 164].
فأول مقاصد هذا الميراث النبوي وقواعده وأركانه –“يتلو عليهم ءاياته”– ولا تعني تلاوة الآيات كما يظن كثير من الناس قراءة سور الكتاب هذرمة… وإنما تلاوة الآيات هي التدبر المَلي لمعانيها والاجتهاد في فهمها والعمل بها، وليست الآيات ما في المسطور فحسب، وإنما هي كل ما أودعه الله في حركة الأكوان: “قد كان لكم ءاية في فئتين اِلتقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ترونهم مثليهم رأي العين، والله يوتي بنصره من يشاء اِن في ذلك لعبرة لاُّولي الاَبصار” [ال عمران، 13]، “وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه قل اِن الهي قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا يعلمون” [الاَنعام، 37]. وفي الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته..” [صحيح البخاري، كتاب الجمعة، رقم: 1004]. وروي عنها عائشة عنها أيضا أنها قالت لما نزلت هذه الآية: “اِن في خلق السماوات والاَرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لاُّولي الاَلباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والاَرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار” [اَل عمران، 190-191]. على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربي ثم قام إلى قربة ماء فتوضأ ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له: أتبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، ثم قال مالي لا أبكي وقد أنزل الله عليَّ في هذه الليلة “إن في خلق السموات والأرض..” [الآية]. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها”. وروي أيضا: “ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها”.
فالتفكر الذي يحض عليه القرآن منهج واضح الأهداف، محدد المعالم، يكاد يؤول إلى معنى الإحاطة بمسالك النظر، والحوار الجدلي المستمر مع الوجود. أما أهدافه فهي تحقيق “علم اليقين” وثلوج الصدور بارتفاع الشك وشهود الحقيقة. وحرصا وتطلبا لهذا الشهود كان دعاء المفكر: “ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار”، أي سبحانك لم تخلق هذا الخلق عبثا وهزلا بل خلقته دليلا على قدرتك وحكمتك، فقنا عذاب الجهل بهذه القدرة، وآثار هذا الجهل في خلل التصور والعبادة والسلوك.
وأما موضوع التفكر فهي -كما قلت آنفا- آيات الآفاق والأنفس التي تنهض حجة وبرهانا على آيات الكتاب، وهي قسمان: آيات الآفاق وثمرتها بناء العقائد اليقينية القائمة على البراهين الكونية الموصلة إلى الحق. وآيات الأنفس وثمرتها بناء الأحكام الأخلاقية والعملية القائمة على جلب المصالح ودفع المضار.
والواقع أن النظر في آيات الكتاب بكشف عن المقصد الأسنى الذي تدور عليه هذه الآيات: فلفظ القرآن نفسه يعني النبع الحقيقي للقراءة، والوحدة القياسية لها أي أن كل قراءة أو معرفة تبدأ من شرعته وهديه أي من منطلقاته اليقينية مثل لفظ “الرحمن” يعني نبع الرحمة أي إن جميع أشكال الرحمة المنتشرة بين الأحياء إنما تنبع من رحمة الله المطلقة اللامتناهية.
فإذن، القرآن هو نبع القراءة الصحيحة والمعرفة الصحيحة؛ لأنه جاء على رأس طور من أطوار التاريخ الإنساني ينذر بتفجر المعرفة واتساعها وانتشارها إلى درجة تجعل الإنسان يؤمن في الصباح بما يكفر به في المساء، ويكفر في الصباح بما يؤمن به في الصباح إذا لم يستق معرفته من منطلقات يقينية سليمة.
وثاني مقاصد هذا الميراث النبوي وأركانه وأسسه: التزكية، وهي عملية تطهير وتنمية شاملة هدفها استبعاد العناصر الموهنة لإنسانية الإنسان؛ وما ينتج عن هذا الوهن من فساد وتخلف وخسران، وبالمقابل تعمد إلى تنمية العناصر المحققة لإنسانية الإنسان؛ وما ينتج عن هذه التنمية من صلاح وتقدم وعمران في حياة الأفراد والجماعات.
والتزكية بحسب -الميراث النبوي- نوعان: تزكية معنوية ميدانها الأنفس والقيم والثقافة، وتزكية عملية موضوعها النظم والبرامج والمؤسسات.
والتزكية في ضوء هذا المفهوم تنصرف جهودها إلى الأهداف التالية:
الأول: تخلية الإنسان من مرضي “الطغيان” و “الاستضعاف” وتنمية حالة الرشد أو حالة “السواء العدل” التي تشكل معيار صحته النفسية والسلوكية؛
والثاني: تزكية ثقافة الأمة من مظاهر الطغيان والاستضعاف وقيمه ورموزه التي تنتج التطبيقات الموهنة في النظم والإدارات والمؤسسات الجالبة للتخلف والضعف، ثم استبدالها بمظاهر العدل والرشد والاستقامة التي تمنح الأمة المنعة وتؤهلها للقيام بمسؤولياتها ووظائفها المختلفة، ويتوقف إنجاز هذا الهدف على معرفة عناصر الثقافة وتحليل مركبها وشبكة علائقها المعقدة. ولذلك يهم الناس حين يتصورون أن الفرد يمكن أن يتزكى دون تزكية البيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة به؛
والثالث: تنمية القيم الإنسانية المشتركة التي ارتقت بها الرسالة النبوية إلى مدارج العالمية وعصر القرية الكونية بغية صهر الولاءات القومية والعشائرية والإقليمية والعرقية في بوتقة الولاء الإيماني التوحيدي الذي عبرت عنه آية السواء بإيجاز وإعجاز “تعالوا اِلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اَربابا من دون الله” [اَل عمران، 64]، فهذه الكلمة روح التوحيد بمعنى لا ينبغي لأحد أن يكون فوق القانون. فالغاية العالية من إرسال الرسل، وإنزال الكتب إقامة القسط بين الناس، والامتيازات التي يحرص بعضهم على تحصيلها باسم القوة أو باسم الثروة أو باسم العصبية أو باسم القداسة هي بذرة الشرور والمآسي كلها… وما دام العدل خيارا غير مطروح لحل النزاعات، وما دمنا نعبد أصنام القوة، ونغتال القيم الإنسانية المشتركة فلا سلام ولا أمن ولا عدالة بل بؤس وفاقة وجوع في ضفة، وقلق وحنق وخوف في ضفة أخرى “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف” [قريش، 3ـ4].
فإذن، إقامة القسط بين الناس جوهر الميراث النبوي المبارك، ومعنى التوحيد الذي هو رسالة الأنبياء. وعندما قرن القرآن بين الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس في قوله تعالى: “إن الذين يكفرون بئايات الله ويقتلون النبيئين بغير حق ويقتلون الذين ياَمرون بالقسط من الناس” [اَل عمران، 21]، وعندما قال كذلك: “شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط” [اَل عمران، 18]، فهذا التوريث إلى أهل العلم له مغزى عميق ودلالة عظيمة على نضج المجتمع الإنساني وتطوره، وإيذان للعلماء والمثقفين والمفكرين في القيام بمسؤولية إقامة القسط بين الناس ورعايتها وتعزيزها والذود عنها.
إن بروز مكانة التزكية والعلم والعدل في الميراث النبوي المبارك جعل المثالية واقعية، وجعل الغيب شهادة، وجعل الإيمان أعمالا، وجعل الخارق الغيبي سننا كونية، وجعل غاية التوحيد إقامة القسط بين الناس.
أرسل تعليق