نحن والقيم (2/5)
2– عن آثار القصف القيمي
لقد أصبحنا اليوم أقدر على رصد مختلف آثار العولمة على ساكنة هذا الكوكب، وخاصة الشباب واليافعين، وقد ظهر من خلال هذا الرصد أن جانبا من المد العولمي أَمْيَلُ إلى بناء إستراتيجيته في ترسيخ أهدافه على قاعدة التنميط، حيث يسعى بدوافع تسويقية لنموذجه بغاية التوسع والانتشار، إلى تنميط قيمه ليجعلها قيما واحدة مشتركة لدى جميع فئات المجتمع. ثم يمتد هذا التنميط ليمس كل السلوكيات اليومية للفرد، والمتمثلة في العلاقات الإنسانية، والارتباطات بين أفراد الأسرة والعائلة، وأنظمة القرابة، وأنماط التعايش والتساكن والاستهلاك، والعلاقة بين الجنسين، وطرائق وأنماط العيش (المأكل والملبس والمشرب)، والعلاقة بين الإنسان وربّه، والبعد الأنطولوجي للإنسان…، وبعبارة أخرى فإن هذا الجانب من المد العولمي، يسعى إلى تغيير فلسفة وجود الإنسان التي من خلالها يرى ذاته، ويدرك نفسه، ويحدد هويته، وينسج علاقاته.
ومن خلال مختلف التحليلات لهذه المعاينات؛ فإن هذا التنميط لا يحدث بمحض الصدفة، وإنما هو محاولة جادة، واستراتيجية محكمة، وراءها رموز مؤثرون (فنانون، رياضيون، إعلاميون، سينمائيون…) مشهورون يسهل التماهي بهم، وعلماء وخبراء في مختلف ميادين المعرفة، وخاصة العلوم الإنسانية، ومؤسسات إعلامية كبيرة، ومراكز وشركات سينمائية مختلفة، يعملون لتوجيه هذا التنميط وفق أساليب وتقنيات ومقاربات بيداغوجية ومنهجية، تستهدف الإنسان في كل مراحل العمر: (الطفولة، الشباب، المراهقة، الكهولة والشيخوخة). ومما زاد في تأثير هذا المدّ التنميطي وعزز من فاعليته وقدراته، ذلك التطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل، وقدرتها على الاستقطاب نظرا لهندسة برامجها التفاعلية، وسهولة استخدامها من لدن مستخدميها (Accessibilité).
وتبعا لنتائج الدراسات المتخصصة في السلوكيات البشرية؛ فإن الإنسان يكيف سلوكه انطلاقا من الممارسة المستمرة، ومن خلال تعرضه لمواقف حياتيه مختلفة، سواء عن طريق القول أو الفعل أو المشاهدة، فقد يقبل الفرد ويقتنع برأي أو فكرة ما، كان في السابق رافضا لها لأنها منافية لقيمه، لكن عملية التكرار قولا أو مشاهدة، تقلل لديه نسبة الرفض، إلى أن يصل في حالة غياب الوعي التزكوي، إلى مرحلة تداعي آليات مقاومته فيكون التسليم والقبول. وبهذه العملية السيكولوجية يُضْحِي الإنسان مستضمرا لقيم كان موقفه منها سلبيا من قبل. والملاحِظ يرى أن جملة من التغيرات قد طرأت في كافة المجتمعات، على أنماط الحياة اليومية من حيث الملبس، وأنماط تناول الطعام، وطريقة التخاطب، من جراء عملية التكرار المذكورة آنفا. مما يقتضي مجموعة نسقية من الدراسات التحليلية متعددة التخصصات، تعتمد أساسا الآليات التحليلية السوسيو أنتروبولوجية، والسيكولوجية المعرفية. وإن تحليلا من هذا النوع لجدير بأن يدخل في عمق ومتن العولمة بكل تجلياتها، وخاصة ما يرتبط فيها بالبعد القيمي/الأخلاقي، وذلك بفضل ما يوفره هذا التحليل من إمكانيات الملاحظة والتفكيك العلميين لظاهرة العولمة، واكتناه أعماقها بدلا من الوقوف عند الوصف.
والله المستعان.
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق