نحن والقيم (1/5)
1- القيم والعولمة
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن القيم والأخلاق في علاقتهما بالعولمة، ويبدو من مختلف التحليلات أن المدعاة إلى تناول هذه المواضيع بالبحث والتحليل والتفكيك هو الرجات المتوالية التي يعرفها عالمنا، وخاصة المجتمعات التاريخية منه، رجات ناجمة في جزء كبير منها عن العلاقات غير المتكافئة بين قيم جديدة وافدة، وقيم هذه المجتمعات الأصلية المتجذرة، وقد بدت بوادر هذا الاهتمام بالأخلاق والقيم في علاقتهما بالتغييرات الاجتماعية، منذ أن كتب ماكس فيبر (Max Weber) مجموعة من الدراسات يمكن إدراجها ضمن “سوسيولوجيا الأديان”، درس فيها الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ساعيا من خلال ذلك إلى تحليل ظاهرة الحداثة وكيفية نشأتها وتشكلها وسريانها في المجتمعات الصناعية آنذاك.
ثم توالت الكتابات في الموضوع ذاته مع ازدياد المد الصناعي والتكنولوجي، حيث خرج ألفين توفلير (Alvin Toffler) بمجموعات كتاباته المتمحورة حول إشكالية القيم والأخلاق في ترابطهما بالصناعة والتكنولوجيا من مثل كتابه الظاهرة: “صدمة المستقبل”، وكتابه “الموجة الثالثة” حيث ناقش الاهتزازات والاختلالات التي تعتري المجتمعات من جراء ردود الفعل على الانفجار الرقمي وثورة المعلوميات، وتسارع المد التكنولوجي، وما يولده ذلك من قيم وأخلاق جديدة. وقد أكد ذلك المفكر الأمريكي اللوذعي دون تابسكوت (Don Tapscott) في كتابه الأخير “جيل الأنترنت”.
وفي هذا السياق تنبأ المفكر الألماني أوزوالد شبنجلر (Oswald Spengler) في كتابه “أفول الغرب” بالمآل الكارثي الذي يهدد كثيرا من المجتمعات نتيجة اندحار وتراجع مجموعة من القيم التي عاشت عليها كالحرية والمساواة والأخوة.
واليوم تطالعنا العولمة باعتبارها ثقافة جديدة، لم تقف عند الحدود التي رسمتها لنفسها عند منطلقاتها في البداية، باعتبارها كمّا من القيم والخدمات المشتركة في إطار تفاعلي. وهكذا بدأت العولمة تتخذ مسعى استراتيجيا جديدا يعطي انطباعا لدى بعض المتتبعين بكونه يروم اختزال مختلف الثقافات في ثقافة واحدة، عن طريق خلخلة المنظومات القيمية للمجتمعات، والاستعاضة عنها بمنظومة قيم العولمة. وهذا ما أشار إليه الأستاذ طه عبد الرحمن في تعريفه للعولمة حين قال: “وأما التعريف الإجمالي للعولمة، فهو أن العولمة هي السعي إلى تحويل العالم إلى مجال واحد من العلاقات الأخلاقية، أو قل مجال علاقي أخلاقي واحد، عن طريق تحقيق سيطرات ثلاث: سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية وسيطرة التقنية في حقل العلم وسيطرة الشبكة في حقل الاتصال. فلما كانت كل أفعال الإنسان، بموجب المسلمة الأخلاقية السابقة، أفعالا خلقية ترفعه أو تضعه، لزم أن تكون الأفعال المقومة للعولمة، أي السيطرات الثلاث، هي الأخرى أفعالا خلقية، وأن تكون العولمة بالتالي عبارة عن عملية تخليق شاملة”[1].
والله المستعان.
——————————
1. عبد الرحمن طه، الآفات الخلقية للعولمة، كيف يمكن درؤها؟ مجلة المنعطف، ع20 س/1423-2002، ص: 33.
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق