نبي الأنبياء.. (3)
قال الله تقدست أسماؤه: “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” [المائدة، 18].
إن التعريف بقدر نبينا صلى الله عليه وسلم، والتعريف بأحواله وخصائصه وشمائله ومناقبه ومعجزاته، والخوض في سيرته العطرة المباركة يعد من أصول الدين، وقواعد الإيمان والاعتقاد عند أئمة المسلمين؛ لأن هذه المعرفة تتعلق بالشطر الثاني من شهادة التوحيد التي هي قطب رحى هذا الأمر. فلا يطمع أحد في معرفة الله تعالى ومعرفة دينه معرفة كاملة، وهو لم يعرف رسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم… ومما أخذه الله تعالى على المشركين في كتابه على سبيل الإنكار والتوبيخ أنهم لم يعرفوا رسولهم حق المعرفة ولم يقدروا قدره مع أنهم كانوا يعرفون أمانته وصدقه ومكارم خلقه؛ قال الله تعالى: “أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ” [المومنون، 70]. وأنا والله كلما قرأت هذه الآية خشيت أن يكون معنا أو فينا من لم يعرف نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما أعني المعرفة الخاصة التي تليق بأهل الإيمان والإيقان لا المعرفة المطلقة التي يشترك فيها الخاص والعام، ولذلك كان من ورد ودعاء سيدي عبد السلام بن مشيش رحمه الله أنه كان يقول: “اللهمَّ إنّه سرُّكَ الجامعُ الدَّالُّ عليكَ، وحِجابُكَ الأعظمُ القائمُ لكَ بينَ يديكَ، اللهمَّ ألحقْنِي بنسبِهِ، وحقِّقْنِي بحسَبِهِ، وعرِّفني إِيَّاهُ مَعرفةً أسْلمُ بها مِن مواردِ الجهلِ، وأكرعُ بِها مِنْ مَوارِدِ الفَضل، واحملني على سَبيلِهِ إلى حَضْرتِكَ حَمْلاً محفوفاً بِنُصْرَتِكَ.”
وهنا سؤال مهم يرد على الخاطر وهو: كيف السبيل إلى هذه المعرفة؟ أو من أين نبدأ لبلوغ هذه المعرفة؟ وأبادر بالقول: كتاب الله تعالى؛ القرآن الكريم إنه المورد الأول لمعرفة قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ في القرآن الكريم آيات كثيرة مفصحة بجميل ثناء الله تعالى على حبيبه المصطفى، وإظهار عظيم منزلته، وذكر كمالاته، وعد محاسنه، والتنويه بأمره وشأنه.
فمن ذلكم على سبيل المثال لا الحصر قوله عز وجل: “لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ اَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُومِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ” [التوبة، 129] قرأها بعضهم “من أنفسكم” بالفتح؛ أي “من أشرفكم وأرفعكم وأفضلكم” وهذا نهاية المدح والثناء؛ قال الإمام السهيلي: “أي من أوسطكم بيتا ونسبا وحسبا” وقرأ الجمهور“من أنفسكم” بالرفع، فيكون معنى الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم تعرفونه وتعرفون أصله ونسبه وتعرفون صدقه، وأمانته، فلم تجربوا عليه كذبا أو غشا قط.
ومن ذلكم قوله تعالى “لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ” [الحجر، 72] فهذا قسم من الله تعالى بعمر وحياة النبي صلى الله عليه وسلم على قول في التفسير، وهذا نهاية التعظيم وغاية المبرة والتشريف. قال ابن عباس “فما خلق الله تعالى وما ذرأ وبرأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره” ومن ذلكم أيضا قوله تعالى: “لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ” [البلد، 1-2] قال الواسطي: “أي نقسم لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا” ومثله قول ابن عطاء في قوله تعالى: “وَهَذَا الْبَلَدِ الاَمِينِ” [التين، 3] قال “أمنها الله بمقام محمد صلى الله عليه وسلم فيها، وكونه بها” وهذا نظيره في القرآن “وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ” [الاَنفال، 33] أي ما كنت بمكة.. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وبقي من فيها من بقي، قال “وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ” [الاَنفال، 33] فهذا بيان لولاية ربه له، ومنعه العذاب بسببه، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم “أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون” فرسول الله هو الأمان الأعظم لهذه الأمة، وما دامت سنته باقية فهو باق، فإذا أُميتت وأهينت فانتظر البلاء والفتن.
ومن الآيات الدالة في الباب قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” [الاَحزاب، 56]، وهذا بيان ما بعده بيان في فضل النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، وذلك بصلواته عليه، ثم بصلاة ملائكته، ثم بأمره الأمة وجميع العباد بالصلاة عليه إلى يوم القيامة… والصلاة من الملائكة استغفار، ومنا له دعاء، ومن الله جل وعلا رحمة.
ومن الآيات قوله تعالى: “اَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ”؛ قال قتادة “رفع الله تعالى ذكر نبيه في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا مـتشهد ولا مصل إلا يقول أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم“؛ ثم إن في القرآن سورا خاصة بتكريم النبي عليه الصلاة والسلام منها سورة الانشراح، وسورة الضحى، وسورة النجم، وسورة الفتح، ولقد سماه القرآن في مواضع نورا وسراجا منيرا وشاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه، ومن خصائصه في الكتاب أن الله جل وعلا خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم فقال “وَقُلْنَا يَا أدَمُ اسْكُنْ اَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ” [البقرة، 34]، وقال: “قِيلَ يَا نُوح اِهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَات عَلَيْك” [هود، 48] “يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءَيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” [الصافات، 105] “يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” [القصص، 30] “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَرْضِ” [ص، 25] “يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا” [الَ عمران، 54] “يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً” [مريم، 11]، ولكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يخاطب في القرآن إلا بقوله “يأيها الرسول” و “يأيها النبي” و “يا أيها المدثر”..
ومن رشيق الاستنباط والتدبر في الباب أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام “رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ” [الاَعراف، 143]، وقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم “لَقَدْ رَأَى مِنْ ايَات رَبّه الْكُبْرَى” [النجم، 18] وقال إبراهيم “وَاَلَّذِي أَطْمَع أَنْ يَغْفِر لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين” [الشعراء، 26]، وقال الله لنبينا “لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ” [الفتح، 2]، وقال في حق نبينا “يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ” [التحريم، 8] وقال الله لنبينا “اَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ” [الشرح، 1].
فالله نسأل أن يعرفنا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع المراتب والخطرات، وأن يعرفنا إياه معرفة نسلم بها من موارد الجهل، ونكرع بها من موارد الفضل، اللهم اجمع بيننا وبينه كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله آمين.
أرسل تعليق