نبي الأنبياء صلى الله عليه وسلم.. (4)
قال الله تقدست أسماؤه: “وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا” [النساء، 112] وقال: “اِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً” [الاَحزاب، 56]. قال الإمام سهل بن محمد بن سليمان: “هذا التشريف الذي شرف به محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أجمع وأتم من تشريف آدم عليه السلام بسجود الملائكة له، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف، وقد أخبر الله تعالى عن نفسه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ثم الملائكة بالصلاة عليه، فتشريف يصدر عنه أبلغ من تشريف تختص به الملائكة من غير أن يكون الله تعالى معها.
وفي الآية فائدة أخرى وهي أن الله تعالى أمر عباده بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعلها قربة يُتقرب بها إليه سبحانه، وهذا تشريف لم ينله رسول ولا ملك.
وعن أبي ذر -رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله” وعند الطبراني “ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد“.
فهؤلاء الملائكة جميعا يصلون جميعا على نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص القرآن حين كانوا وأين كانوا وهذا مما خصه الله به، ويستلوح من الآيات التي جاءت قبل هذه الآية في سورة الأحزاب أن المؤمن الذي يذكر الله ذكرا كثيرا، ويسبحه بكرة وأصيلا، ويتأسى برسول الله في قوله وفعله وحاله وسيرته، ويواظب على الصلاة عليه؛ موعود ببشارة الفضل الكبير، ومنحة الإخراج من الظلمات إلى النور كما قال المفسر المغربي أبو بكر بن عطية “هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى لأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا”.
إن تصحيح الإيمان والاعتقاد يتوقف على معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه التخبط والجهل والتعالم.. وفضل النبي صلى الله عليه وسلم مبني على معرفة خصال الكمال التي كان يتحلى بها والمزايا التي وهبها الله تعالى إياه ومن ذلكم على سبيل المثال تخصيصه بإتيانه القرآن العظيم ففيه تشريف يفوق ما أوتيه جميع الأنبياء؛ وما أوتوه عليهم الصلاة والسلام لا يعدو أن يكون خارقا من الخوارق ينتهي بانتهاء زمنه أو تشريعات ووصايا تختص بقبيل من الناس؛ أما القرآن فهو معجزة الدهر، وكتاب الزمن، ودستور الحياة في شتى نواحيها ومن هنا قال الله تعالى لنبيه “وَلَقَدْ اتَيْنَاك سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَان الْعَظِيم” [الحجر، 87]؛ أي خصّصناك بهذا الكتاب وشرفناك به وادخرناه لك وقال: “اَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُومِنُونَ” [العنكبوت، 51]. قال الزمخشري“أولم يكفهم” آية مغنية عن سائر الآيات هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل” وقال جل شأنه “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا” [الكهف، 1] وفي الحمد على إنزال القرآن دليل على أنه نعمة عظيمة وقال “وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك” [الاِسراء، 86]. وهو القرآن بأن نمحوه من السطور والصدور. ثم لا تجد علينا وكيلا إلا رحمة من ربك يعني نحن أبقيناه رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا يعني بإنزال القرآن وحفظه من التبديل وإعطائك المقام المحمود وغير ذلك مما خصك الله به.
ولذلك كان الصحابة يعرفون منزلة النبي ومكانته عند ربه، وكانوا على دراية تامة بجلال قدره وشأنه، إذ كانوا يدركون مقاصد الخطاب في مثل قوله تعالى “وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه” [الحجرات، 7] وقوله “وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ” [الاَنفال، 33]، ولذلك قال بعضهم في هذا “رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأمان الأعظم ما عاش وما دامت سنته باقية فهو باق فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء والفتن” قال أبو العالية في معنى قوله تعالى “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ” [الفاتحة، 5-6] قال الصراط المستقيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخيار أهل بيته وأصحابه فلما بلغ ذلك الحسن البصري وهو أفقه علماء التابعين قال “صدق والله ونصح” وقال سهل في قوله تعالى “وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا” [النحل، 18] قال نعمة الله لا تحصى بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا معنى صحيح، ومن ثم فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي عرفنا بالله ودلنا على طريق توحيده ودلنا على كيفية عبادته فما من نعمة نالها أحد في الإسلام إلا بفضل محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد مكثت سنين أتفكر في الحكمة من الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالوا “إنه فرض على المكلف أن يأتي بها مرة من دهره” ورحم الله الإمام الشافعي ومحمد بن المواز من المالكية إذ قالا “من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فصلاته باطلة وعليه الإعادة“. ولذلكم كان سلف هذه الأمة وخيارها إذا انقطعت بهم السبل، وادلهمت عليهم الخطوب، وأحاطت بهم المصائب، وهجمت عليهم النوائب؛ ذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرا جميلا تيمنا بالحديث الصحيح: “إن الله وكل بالصلاة علي ملكا يبلغني صلاة كل من يصلي علي من أمتي“. قال ابن دحية “إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من أمته ينبغي له أن يصلي عليه لقوله صلى الله عليه وسلم من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا” وروى البيهقي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة“.
قلت لم أزل مشغول الفكر بمعرفة السر في ذلك والترغيب في الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى اطلعت على كلام لطيف لعالم من علماء الهند، وهو الشيخ عبد الحق الدهلوي في كتابه “مدارج النبوة” قال “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحسن في حقنا بهدايتنا، وجعلنا نأمل شفاعته في الآخرة لهذا أمر الله تعالى بقضاء حقه الذي علينا نظرا لإحسانه الذي أسداه لنا في الدنيا، وأمرنا بمحبته وطاعته أملا في رجاء شفاعته في الآخرة. ولما علم الله تعالى أننا عاجزون عن أداء حقه لأنه هدانا في الدنيا وعاجزون في التقرب إليه أملا في شفاعته في الآخرة أمرنا بالدعاء بأن نفوض هذا الأمر له تبارك وتعالى ونسأله أن يزيده تشريفا وتكريما كما يليق بجناب عظمته صلى الله عليه وسلم“. ولعل أصل هذا الاستنباط الجميل الرائق ما ذكره الإمام العز بن عبد السلام: “ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة منا له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بالمكافأة لمن أحسن إلينا وأنعم علينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه، لتكون صلاتنا عليه مكافأة بإحسانه إلينا، وأفضاله علينا، إذ لا إحسان أفضل من إحسانه صلى الله عليه وسلم”. وتأمل حديث ما يقول المرء بعد الأذان: “إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة لأنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة” وفي رواية حلت له شفاعتي يوم القيامة“.
والله المستعان
أرسل تعليق