مُتْعَةُ التَّفْكِير
التَّفكير والعَقل
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن القارئ المتمعن في الآيات القرآنية سيجد أن ثمة قرابة مفهومية بين لفظ “يتفكرون” ولفظ “يعقلون”، بحيث تكاد تتطابق هذه الآيات لبيان عظمة الخالق جَلَّ جلاله وقدرته من جهة، ودعوته الناس عامة والمؤمنين خاصة إلى الـتأمل في هذه العظمة والقدرة، والآيات المبصرة التي لا يفقهها إلا العاقلون والمتفكرون من ذوي الأبصار؛ الشيء الذي يفضي بنا إلى نتيجة أساسية عليها مدار الأمر كله في هذا الموضوع، وهي أن ثمرة التفكر: هي الوقوف على حقيقة هذه الآيات الربانية لمعرفتها حق معرفة، واتخاذها نبراسا يتحول معها الإيمان إلى عمل.
وبهذا المعنى العميق، نجد أن اللفظ يدور في القرآن الكريم حول عملية التفكير بما هي إعمال للعقل والنظر للوصول إلى مجهول مطلوب، وهذا ما نجده واضحا جليا في الكثير من كتب التفسير[1].
التفكير والتَّدَبُّر
ومُتْعَةُ التفكير لا تَتَأَتَّى إلا بالتَّدَبُّر، لذلك وَرَدَتْ هذه المفردة “تدبر” في القرآن الكريم في أربعة مواضع، وهي:
• “اَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً”. [النساء،81]؛
• “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ اَقْفَالُهَا” [محمد، 25]؛
• “أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَاتِ ءَابَاءهُمُ الاَوَّلِينَ” [المومنون، 69]؛
• “كتَابٌ اَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الاَلْبَابِ” [ص، 28.
والملاحظ أن كل هذه المواضع مرتبطة بالقرآن نفسه، وهذا يوضح أن القرآن يدعو الإنسان إلى إفراغ جهده في استخراج كنوزه، والإنسان لا يدعو غيره لتدبر عمله إلا إذا كان واثقا أكيداً من خلوه من العيب، والله عز وجل يدعونا إلى تحليل كتابه، وينبهنا إلى خُلُوِّهِ من الاختلافات “ومن باب أولى خلوه من التناقضات”.
النَّتِيجَة
وإذا كان مُعْمِلُ الفكرِ ومستَخْدِمُهُ مُعَرَّضاً لِلْخَطَإِ والزَّلَل؛ فإن الذي لا يستعمله مُعَرَّضٌ للجمود والإِمَّعِيَّةِ والتَّبَعِيَّة التي تُزَحْزِحُهُ عن طريقِهِ السَّوِيِّ، وتَحُولُ بينه وبين الوصول للحقيقة.
فالعلوم التَّجْريبيَّةُ تَتَوَخَّى إقامة الدليل الحِسِّيِّ عن طريق المشاهدة أو التجربة في القضايا الحِسِّيَّةِ الواقعية. لِذَا وضع القرآن أساسَ منهجِ البحثِ التجريبي للتحقق من صحة المعلومات للوصول إلى المعرفة اليقينية فيما نقوم بِبَحْثِهِ من مشكلات، وهذا هو الأساس الذي قام عليه البحث التجريبي عند العلماء المسلمين، والذي أخذه عنهم فيما بَعْدُ العلماء الغربيون في مطلع النهضة العلمية الحديثة في أوروبا.
فعلم أصول الفقه –مثلا- هو علمٌ في منهجيّة الاجتهاد والاستنباط. وعلم أصول الحديث هو علمٌ في منهجية البحث التاريخي. وعلم النحو هو علمٌ قائم على منهج الاستقراء. وعلم الكلام هو الأساس الفلسفي للفكر الإسلامي.
يُتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..
—————————-
1. يُنْظَر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 3/470، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي2/3/62، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي1/2/116، تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/352.
أرسل تعليق