موقف العلامة اليوسي من المهدوية
قال العلامة أبو الحسن اليوسي في كتابه “المحاضرات“[1] عن ما أسماه وسواس المهدوية: فمن انتهض اليوم للانتصاب رَوْماً لإقامة الحق وإنصاف المظلوم من الظالم فهو مغرور، ولعل ذلك لا يتأتى له كما ينبغي في بيته فضلاً عن قريته فضلاً عن البلد، فضلاً عن الإقليم، وقد يسمع فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بمصالح المسلمين ودرجة الإمام العادل، وذلك كله حق، ولكن أين يتأتى؟ فيتحرك المسكين لانتقاص الأجر والظفر بعلي الدرجات فلا يفطن إلاّ وقد وقع به العشاء على سرحان، وربما حان فيمن حان، وقد يكون ذلك، وهو الأغلب، دسيسة دنيوية، ونزعة شيطانية، وقد يقع في بعض هذه المهاوي بعض أبناء الطريق يحسدهم الشيطان على باب الله والتفرغ للحضور بين يديه وتجنب المعاصي التي هي أقرب شيء إلى الغفران برحمة الله، فلا يزال بهم حتى يضمهم إليه ويجاوز بهم مزالق من كانوا يتبعونه إلى هاوية من يتبعهم كما قال الشاعر:
وكنت امرءاً من جند إبليس فانتـهــى بيَ الأمر حتى صار إبليس من جندي
لاشك أننا إزاء نص ثمين يلخص رؤية عالم موسوعي مصلح لموضوع ملازم للاجتماع البشري هو الرغبة في التغيير.. ونستفيد من إشارات اليوسي العميقة أن التغيير في أساسه تغيير النفس والتأثير السلمي في الناس بإشاعة العلم والمحبة والصدق وثقافة الإتقان؛ لأن ذلك أدعى –وفق طبائع العمران- أن يحقق النفع للإنسانية ويجنبها مزالق الفتن وتهديد الناس في أرواحهم وأرزاقهم وأمنهم.. فاليوسي يرى الإحساس بالقدرة على التغيير عبر الانتهاض غرورا.. ويمكن أن نقرأ بين سطور نص اليوسي أن هذا الغرور مقرون بنوع من الجهل الفكري والإنساني على الرغم من إمكانية توفر المنتهضين على شيء من علم الظاهر، أو في حالات كثيرة يقترن الغرور بأحوال إيمانية وجمالية لا تبرح نفس صاحبها، ولا ترى الكون والإنسان بعين الجمال.. يقول اليوسي في المحاضرات: فيجد الواحد قوة إيمانية في قلبه أو حالة جمالية واردة، فيوهمه ذلك أنه قوي على أن يصدع بالحق، وربما أوهمه ذلك أنه هو الحقيق بذلك دون غيره، أو أنه هو المهدي المنتظر، فيتحرك على طمع أن ينقاد له الأمر وينقاد له أبناء الزمان، ويحفر فيُكدي، ولا يعيد ولا يبدي، ثم يصير أشقر إن تقدم نُحِر، وإن تأخر عُقِر، فلا يسعه على زعمه إلاّ فتح أبواب التأويلات والترخصات، وإسعاف الناس بعد أن قام ليتبعوه، ومن شأنك بهدم الدين عوض ما قام ليبنيه، ويخفض الحق مكان ما انتهض ليعليه، فإياك وإياك.
إذا أرخى الخمول عليك ذيلاً فنم في ظله ليلاً طـويلا
هنا يفصح اليوسي عن ظاهرة ما انقطعت يوما في تاريخ المسلمين الفكري والسياسي هي فكرة المهدي المنتظر.. وإذا كانت الآراء الفقهية التقليدية حول الظاهرة في أبعادها العقدية مختلفة ومتناقضة أحيانا، فإن الأبعاد السياسية للمهدوية شكلت ولازالت تشكل أحد أهم مآزق الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.. فكثير من مدعي التغيير يرتبط في أذهانهم ويتجسد في سلوكهم ما يسميه المرحوم محمد عابد الجابري التعالي بالدين، عبر فهم طهراني إحيائي للدين يغيِّب كل فهم فلسفي كوني له عبر القراءتين، قراءة عن الله وقراءة بالله لتحقيق جدل الغيب والكون والإنسان.. إن الفهم الفلسفي العميق للإسلام لا يمكن أن ينتج –وفق طبائع الأشياء- إلا تعمقا في العلم واحتراما للإنسان وانخراطا في السلم الكوني.. في الجهة المقابلة يرتبط التعالي بالدين عبر -السياسة- بانتفاخ الذات واحتقار الناس، وتوظيف كثير ممن كانت عندهم القابلية لذلك، بل والركوب عليهم باسم الدين وتغيير المنكر للتأكد عمليا من حقيقة الزعامة المدعاة والمهدوية التي “ستخرج الناس من الظلمات إلى النور!!“.
بأسلوب ساخر وحازم يقول العلامة اليوسي: “وقد رأينا في وقتنا هذا من استولت عليه هذه الوساويس حتى وقع في شبه صاحب المانلخويا بحيث لو اطلع الناس على ما هو فيه رموه في المارستان، ولكن ستر الله تعالى يغطي على عبيده“.
ثم يمضي أبو الحسن اليوسي في إيراد بعض نماذج من دعاة المهدوية مبرزا دوافعهم السياسية والنفسية، وقد توقف كثيرا عند مهدوية أحمد بن أبي محلى الثائر الشهير خلال حكم زيدان بن أحمد المنصور الذهبي.. يقول اليوسي في المحاضرات: “وممن ابتلي بهذا قريباً أحمد بن عبد الله بن أبي محلى، وكان صاحب ابن مبارك التستاوتي في الطريق حتى حصل له نصيب من الذوق، وألف فيها كتباً تدل على ذلك، ثم نزعت به هذه النزعة، فحدثونا أنه في أول أمره كان معاشراً لابن أبي بكر الدلائي، وكان البلد إذ ذاك قد كثرت فيه المناكر وشاعت، فقال لابن أبي بكر ذات ليلة : هل لك أن تخرج غداً إلى الناس فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلم يساعفه لما رأى من تعذر ذلك لفساد الوقت وتفاقم الشر، فلما أصبحا خرجا، فأما ابن أبي بكر فانطلق إلى ناحية النهر فغسل ثيابه وأزال شَعَثَهُ بالحلق، وأقام صلاته وأوراده في أوقاتها، وأما ابن أبي محلى فتقدم لما هم به من الحسبة فوقع في شر وخصام أدّاه إلى فوات الصلاة عن الوقت ولم يحصل على طائل، فلما اجتمعا بالليل قال له ابن أبي بكر : أما أنا فقد قضيت مآربي، وحفظت ديني، وانقلبت في سلامة وصفاء، ومن أتى منكراً فالله هو حسيبُهُ أو نحو هذا، وأما أنت فانظر ما الذي وقعت فيه. ثم لم ينته إلى أن ذهب إلى بلاد القبلة ودعا لنفسه وادعى أنه المهدي المنتظر، وأنه بصدد الجهاد، فاستخف قلوب العوام واتبعوه، فدخل بلد سجلماسة وهزم عنه والي الملوك السعدية واستولى عليه، ثم أخرجهم من درعة، ثم تبعهم إلى حضرة مراكش، وفيها زيدان بن أحمد المنصور فهزمه وأخرجه منها، وذهب فاستغاث بأهل السوس الأقصى فخرجوا إلى ابن أبي محلى فقتلوه وهزموا عسكره شذر مذر فكان آخر العهد به، ورجع زيدان إلى ملكه. وحدثونا أنه كان ذات يوم عند أستاذه ابن مبارك قبل ذلك فورد عليه وارد حال فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، أنا سلطان، فقال له الأستاذ: يا أحمد “هب أنك تكون سلطاناً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً..
وفي يوم آخر وقع للفقراء سماع فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، فتحرك فقير أخر في ناحية وجعل يقول: ثلاث سنين غير ربع، وهذه هي مدة ملكه، “وقد رمزوا له ذلك” فقالوا: قام طيشاً، ومات كبشاً، أي قام في تسعة عشر بعد ألف، ومات في اثنين وعشرين بعدها[2]. وزعموا أن إخوانه من الفقراء ذهبوا إليه حين دخل مراكش برسم زيارته وتهنئته، فلما كانوا بين يديه أخذوا يهنئونه ويفرحون له بما حاز من الملك، وفيهم رجل ساكت لا يتكلم، فقال: ما شأنك لا تتكلم؟ وألح عليه في الكلام، فقال له الرجل: أنت اليوم سلطان، فإن أمنتني على أن أقول الحق قلته، فقال له: أنت آمن فقل، فقال: إن الكرة التي يلعب بها يتبعها المائتان وأكثر من خلفها، وينكسر الناس وينجرحون، وقد يموتون، ويكثر الصياح والهول فإذا فتشت لم تجد “بداخلها” إلاّ شراويط أي خرقاً بالية ملفوفة، فلما سمع ابن أبي محلى هذا المثال وفهمه بكى وقال: رمنا أن نحيي الدين فأتلفناه..”.
يشير اليوسي هنا عبر هذا الخبر إلى أن فتنة ابن أبي محلى، رغم ما ادعاه صاحبها من تغيير للمنكر، ونشر للدين ونصرة للمظلوم من الظالم هي في ماهيتها قفز على التاريخ، وتسرع أهوج لا يبقي ولا يذر، وغوص في المجهول، وسير بلا مقاصد، وإهلاك للبلاد والعباد.. ونفهم أيضا أن أي مهدوية كيفما كانت طبيعتها وملابساتها ومنطلقاتها تحتاج بالضرورة إلى ما يسميه اليوسي بـ”العوام”، وهم حطب كل مهدوية في التاريخ، بل إن فكرة المهدي مرتبطة بنيويا بجيش من “العوام” يصدقه و يفقد إنسانيته معه بمحض إرادته.. وفي نهاية المطاف نكتشف أن الكرة التي تدحرج العوام معها وانكسروا وانجرحوا مملوءة بالشراويط…
ويستدل العلامة اليوسي بحديث الهداية الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي –رضي الله عنه- “لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم“، ثم يعلق بقوله: “والمفسدة في ذلك في الجملة ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وتضييع الحقوق، وإظهار العقوق، وإظلال الناس، والتحريف والإلباس..”.
ويدعو اليوسي في خاتمة حديثه عن وسواس المهدوية إلى “النظر إلى الملك الذي أشرف على تل ونظر إلى جنوده تحته فأعجبوه، فتمنى أن لو كان حاضرا مع النبي صلى الله عليه وسلم لينصره، فرحمه الله بفضله على هذه النية. فانْوِ أنت أيضا أن لو كانت لك قوة على إظهار الشريعة وإحياء السنة وإخماد البدعة وحسم الباطل وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم وإقامة ميزان العدل إصلاح العباد والبلاد، فعسى أن تنال بهذه النية خيرا.. وقف هاهنا وطِبْ نفْسا عما وراءه فلا تلج تلك المضائق، ولا تتبع تلك الطرائق. وإذا فهمت الدسيسة في هذا القسم فافهمها في غيره.. لله الأمر من قبل ومن بعد..
————————————————————
1. مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، 1976، ص: 105.
2. كم هو رائع هنا توظيف حساب الحروق للدلالة على السنوات وفي الوقت نفسه إطلاق حكم قيمة تعبيرا عن موقف. وعبارة قام طيشاً، ومات كبشاً غنية عن أي تعليق..
أرسل تعليق