مهمتنا إزاء الدين
قال الله تقدست أسماؤه: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسلام دِينًا” [المائدة، 4]، وقال: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” [البقرة، 142].
لقد أكرمنا الله جل وعلا بدين قيم قويم كامل، أحسن سيدنا عمر رضي الله عنه في تحليته وتقديره بقوله: “لقد أعزنا الله بالإسلام فمهما طلبنا العزة بغيره أذلنا الله“.
بيد أن هذا الدين العظيم الذي أكرمنا الله به يحتاج في المرحلة الراهنة إلى من يعقله ويفهمه، وإلى من يُطبقه ويُمارسه، وإلى من يحمله ويحسن عرضه على الناس بطريقة لا تنفر منه؛ على نحو قوله تعالى “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ” [البقرة، 155] وقوله: “وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ” [الحجرات، 7]، فإذن أساس هذا الأمر وقطب رحاه التبيين لا الإكراه، والتحبيب لا التنفير، فليت شعري متى نرتفع إلى مستوى هذا الدين فهما وعلما وعملا وحالا وخلقا وتشريعا.. هذا الدين الذي يأمر بالحق والعدل والإنصاف.. هذا الدين الذي يُحل الطيبات، ويُحرم الخبائث، ويضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.. هذا الدين الذي يهدي للتي هي أقوم في المجالات الأساسية التي تؤثر في حركة الإنسان في التاريخ كالتربية والتعليم والتثقيف والمعارف والعلوم والصنائع المختلفة؛ فإذا كان هذا هو الدين الذي شرفنا الله به، فما بال أتباعه والمنتسبين إليه يتخبطون في حالك الظلمات كما قال الشاعر:
إذا زرت بعــــد البيت قـــبر محمد وقبلت مـــتوى الأعظم العــطرات
وفاضت من الدمـع العــيون مهابة لأحمد بــين السِّـــتر والحـــجرات
فقل لرسول الله يا خير مـــرســل أبثك مــا تدري من الحــــــسـرات
شعوبك في شــرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سـبات
بأيمـــــانهم نـــوران ذكر وســــنة فما بالهم فـــي حالك الظلـــمات
ففي أيديهم نوران نور القرآن، ونور سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يتخبطون في ظلمات الجهل والخلاف والشقاق والفساد والطغيان والمذلة والتبعية المقيتة، ومثلنا اليوم مع الإسلام كمثل محامٍ فاشل وكِّلَ بقضيةٍ عادلة.. والإسلام هو القضية العادلة، والنور الساطع، ولكن ماذا يُجدي هذا النور مهما كانت طاقته ودرجة قوته مع إنسان لا يبصر.
وما قيمة التدين إذا لم يحدث في حياة الإنسان تحولا نوعيا في عقله وفهمه وقلبه وسلوكه؟ وما قيمة التدين إذا لم يبرز في حياة الجماعة وسلوك الإنسان نظاما ونظافة وحبا وتسامحا واحتراما لمشاعر الناس واعترافا بحقوقهم وحفظا لمصالحهم.
إن مبنى التدين وقوامه على طلب الأكمل، واتباع الأحسن، واجتراح الأرقى كما قال جل وعلا “وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم” [الزمر، 52]، وقال “لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” [الملك، 2]، فالتدين تحولٌ نحو الأفضل، وسعيٌ حثيث نحو الرشد “فمن أسلم فأولئك تحرَّوا رشداً“.
ومن المفروض أن يلمس الإنسان هذا التحول الإيجابي من نفسه قبل أن يلمسَهُ أو يلحظه الآخرون، وهذا الذي نبهت إليه آيات كثيرة في القرآن كقوله “أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا” [الانعام، 123] فالتدين حياة بعد موت، ونور بعد ظلمة، وهداية بعد ضلالة، وترق من مقام إلى مقام، ومن مرحلة إلى مرحلة حتى تصل إلى درجة اليقين “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ” [الحجر، 99]، “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” [العنكبوت، 69]، وفي الدعاء النبوي الصحيح “اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد..“. فالرشد هو عنوان وسبيل المصالحة والانسجام بين ضميرنا الديني، وبين الواقع بكل تحدياته وفتنه وإكراهاته. والتدين إن لم يكن مشروعا للرشد العام ومبادرة تجديدية وترشيدية للفرد وللجماعة تحول إلى مشروع انقلاب ضد الدين نفسه، وقد حذر القرآن الكريم من غلواء هذا الأمر كما في قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الاَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَاكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَلِيمٍ” [التوبة، 34]، فآفة التدين الكبرى التظاهر بالقداسة واستغلالها؛ بمعنى أن يأكل المرء بدينه كما كان السلف يعبر عنه.. هذه واحدة، والثانية أن تتحول شعائر الدين إلى رسوم آلية، أو أبدان بلا أرواح. روى الإمام مالك عن برد سعيد بن المسيب قال: “ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء! قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافا رجليه حتى يصلي العصر. فقال: ويحك يا بُرد، أما والله ما هي بالعبادة؛ إنما العبادة التفكُّر في أمر الله، والكف عن محارم الله“. ونحن نضيف إلى هذين قوامين آخرين: الأول العبادة أن تكون إنسانا نافعا للناس.. المؤمن منفعة، إن سافرت معه نفعك، وإن جالسته نفعك، وإن شاركته نفعك، وإن عاملته في صغير أو كبير نفعك، والثاني العبادة أن تكون إنسانا مسؤولا، أن تشعر بالمسؤولية تجاه الآخر أن تحمل مصالح الناس وحقوقهم على أقصى محامل الجد، فهذه أربع خصال من جمعهن فقد جمع الإيمان..
والله المستعان
أرسل تعليق