من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث (19)
هذا هو المقال التاسع عشر من هذه السلسلة التي عنونتها بـ: “من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث”، وسأقتصر فيه على الحفاظ المعاصرين من أهل هذا القطر المغربي الأقصى الذين ذُكروا بسعة الدائرة، وقوة الاستحضار، وجودة الحفظ، وامتداد الباع، وطول اليد في هذا المجال، وهذا الإيراد لنخبة مختارة منهم دال على اتصال العناية بالسنة النبوية حفظا واستظهارا عبر العصور في هذه البلاد المغربية، وكون هذه العناية لم تنقطع، ولأجل ذلك عصمت هذه البلاد عن شيوع الأهواء، وغلبة أهل الزيغ والابتداع، اللهم إلا فترات يسيرة من تاريخها الكبير، وفي نطاق محدود جدا من قطرها الواسع، ووجود التسنن في البلاد أثر من آثار عناية أهلها بالآثار، واشتغالهم بالحديث؛ فإن البدع والأهواء لا تتطرق إلى من شاع بينهم الاشتغال بالسنة، سرى إليهم ذلك من إمامهم مالك شيخ الحفاظ، ونجم السنن.
وقد زخر هذا العصر الأخير بعظماء المشتغلين بالحديث بهذا القطر المغربي، والمشار إليهم بالبنان في هذا الباب من جميع أقطار الدنيا، وإذا فاخر المغاربةُ غيرَهم في مجال الحديث وحفظه، والمعرفة بكتبه وأسانيدها، والدراية بصحيح الآثار وضعيفها، والغوص على عللها، ونصرة السنة والعمل بها، بزُّوا الجميعَ من أهل هذا العصر بمثل الشيوخ الجلة: أبي شعيب الدكالي، ومحمد بن جعفر الكتاني، والمدني بن الحُسني، وعبد الرحمان النتيفي، ومحمد عبد الحي الكتاني، ومحمد العربي العلوي، وأحمد بن الصديق، وتقي الدين الهلالي، وعبد الله بن الصديق. وكل واحد من هؤلاء أمة وحده في مجال من مجالات الأثر.
وسأسوق في هذا المقال وما يليه مَن ذكر منهم بحفظٍ إما على جهة التعيين أو على جهة الإطلاق.
أبو شعيب الدكالي (1356)
ترجمه تلميذه العلامة محمد المختار السوسي في تراجم أساتذته الحضريين ترجمة طنانة[1] أبدى فيها وأعاد، وأرخى لقلم الإعجاب العِنان، ووصفه بحفظ كتب مختلف العلوم كالموضح في النحو، والمختصر الخليلي في فقه مالك، وجمع الجوامع في الأصول وغيرها، وهي كتب كبيرة، عبارتها صعبة، ومادتها وفيرة، لا يقدر على الإمساك بزمامها حفظا، والأخذ بناصيتها استظهارا إلا من اكتملت فيه ملكة الحفظ، وأما الحديث وهو الذي خصصت لعناية المغاربة بحفظه هذه المقالات، فقد روى عنه قصصا تدل على سعة الحفظ وقوة الاستحضار، وأنه أملى ما ينيف على مائة حديث بديهة في موضوع العلم النبوي[2] . كما أنه نقل عنه من عجيب استحضاره لتراجم الرواة ما يدل على المعرفة التامة بهذا الفن[3] .
وقال المؤرخ عبد السلام بن عبد القادر بن سودة فيه: “آخر حفاظ المغرب ومحدثيه، الشيخ الإمام، علامة الأعلام، المحدث المفسر، آخر من رأينا على طريق الحفاظ المتقدمين الذين بلغنا وصفهم، ولولا أني رأيته رحمه الله يملي لداخلني الشك في وصفهم، يستحضر لفظ متون الحديث، ويعرف تراجم الرواة على اختلاف طبقاتهم ووفياتهم وناحيتهم من حيث التعديل والتجريح”[4] .
وبالجملة فالرجل نادرة من نوادر الزمان.
يتبع إن شاء الله
———————– ———-
1. “مشيخة الإلغيين من الحضريين أو تراجم أساتذتي الحضريين”، ص: 13- 71.
2. “مشيخة الإلغيين من الحضريين أو تراجم أساتذتي الحضريين”، ص: 20- 23.
3. “مشيخة الإلغيين من الحضريين أو تراجم أساتذتي الحضريين”، ص: 51- 56.
4. “إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع” 2/477 (تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، ط1: 1417/1997)، ونحوه في كتابه الآخر: “سل النصال للنضال بالأشياخ وأهل الكمال” 8/3052 (ضمن موسوعة أعلام المغرب، تنسيق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1417/1997).
-
!جزاك الله خيرا أخي الدكتور محمد السرار، فطالما سمعنا من بعضهم أن المشارقة لهم الباع الطويل والقَدم الراسخة في جميع فروع علوم الشريعة، وأن المغاربة لهم تبع، في حين أن المغاربة كان لهم السبق في كثير من العلوم، ويكفيهم شرفا وجود نساء حافظات لكتب المتون، خاصة في منطقة سوس العالمة، والتنافس بين المشارقة والمغاربة معروف مشهور، فَمِنْ قَبْلُ كَتَبَ أحدُ المشارقة تقريظا على كتاب "مشارق الأنوار" للقاضي عياض السبتي، فيه شيء من التعريض بالمغاربة، وهو قوله:
مَشَارِقُ أنْوَارٍ تَبَدَّتْ بِمَغْرِبٍ *** فيَا عَجَباً كَوْنُ الْمَشَارِقِ بِالْغَرْبِ!
فلم يعجب القاضي عياض – رحمه الله – هذا المسلك أن يصدر العلم عن المغاربة؛ فعارضه ببيت له قال فيه:
وَمَا شَرَّفَ الأوْطَانَ إلاَّ رِجَالُهَا *** وَإلاَّ فَلاَ فَضْلٌ لِتُرْبٍ علَى تُرْبِ!ومشهور جدا – لدى المغاربة – إنشاد الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي:
أنَا الشَّمْسُ في جَوِّ العُلُومِ مُنِيرَةٌ *** وَلَكِنَّ عَيْـبِي أَنَّ مَطْلَعِيَ الغربُ!
وَلَوْ أنَّنِي مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ طَالِعٌ *** لَجَدَّ علَى مَا ضَاعَ مِنْ ذِكْرِيَ النَّهْبُ
التعليقات