من غرائب حفظ المغاربة.. والأندلسيين لكتب الحديث (2)
كنت قد جلبت في الجزء الأول[1] من “من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث” أعلاما ذكروا بالحفظ الباهر، وروي عنهم حفظهم المتقن، أو استحضارهم الكامل لكتب من كتب الحديث والرجال كبيرةِ الحجم، مما ينبئ عن تمكن ملكة الحفظ. ولقد كان الاعتناء بحفظ كتب الحديث ديدنَ علماء هذه الجهة، وذكرت منهم طائفة بذلك في كتب التراجم، ولما كان من سقتهم في الجزء الأول من هذا المقال ثلاثة من الأعلام[2]، خشيت توهم ندرة هذا الحفظ العجيب، بحيث لم يذكر به إلا الواحد بعد الواحد في أعصار متطاولة، مع كثرة المعتنين، حتى يظن الظان أنه لو جمع جامع من ذُكر بذلك الحفظ لم يتعد العددُ أصابعَ اليد الواحدة؛ فأحببت في هذا المقال أن أبين كثرة الحفاظ الذين ذُكر عنهم مِن حفظ كتب الحديث نظيرُ ما ذُكر عن الذين وَقَع جلبهم في المقال الأول. وكثرةُ الشواهد على الشيء تدل على شيوعِه وكثرِة وجوده. وقد يسر الله لي أن ألتقط مِن بعض كتب التراجم طائفة من أهل جهتنا هذه، ذُكِروا بالحفظ العجيب، أُورِد منهم هنا جماعة.
فمنهم: الإمام أحمد بن محمد بن مغيث أبو عمر الطليطلي (459)، ذكر ابن بشكوال أنه كان يحفظ صحيح البخاري، ويعرف رجاله[3].
ومنهم الإمام أبو محمد عبد الله بن عيسى الشيباني من أهل قُلِنَّة، حَيْزَ سرقسطة (530)، حلاه ابن بشكوال بالمحدث الحافظ المتقن، وقال: “كان يحفظ صحيح البخاري، وسنن أبي داود عن ظهر قلب فيما بلغني…، وأخذ نفسه باستظهار صحيح مسلم، وله عليه تأليف حسن لم يكمله”[4].
ومنهم محمد بن قاسم بن إبراهيم الأنصاري الأندلسي، يعرف بالشُّدَيِّد على بنية التصغير، قال لسان الدين بن الخطيب في ترجمته: “حفظ كتبا ـ وذكر منها: ـ شهاب القضاعي”[5].
ومنهم محمد بن هاشم الهاشمي السرقسطي، نقل ابن بشكوال عن أبي علي الصدفي أنه قال في المترجم: “رجل صالح، كان يحفظ الموطأ، والبخاري، وغير شيء. ورأيته يقرأ من حفظه كتاب البخاري على الناس فيما بين العشاءين بالسند والمتابعة، لا يخل بشيء من ذلك”[6].
فهذه نماذج تضاف إلى ما سبق، جمََعَ بين الجميع قوة الحفظ وشدة الاستحضار، مما يُقضى منه بالعجب، وهو مِن نقْل الثقات المرضيين الذين لا يتطرق إلى منقولهم أدنى ريب.
وسأورد بحول الله تعالى في المقال المقبل نماذج من هؤلاء الذين ذكروا بحفظ كتب الحديث من أهل المغرب والأندلس.
يتبع
———————
1. نشر في جريدة الميثاق الإلكترونية، العدد 27، بتاريخ 10/12/2010.
2. وهم: أبو عمر أحمد بن عبد الله الإشبيلي، المعروف بابن الباجي، وأبو القاسم عبد الرحمان بن محمد الأندلسي، المعروف بابن حبيش، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم المالقي، المعروف بابن الفخار.
3. الصلة 1/61 (الدار المصرية للتأليف والترجمة، ط1966م)
4. الصلة 1/296.
5. الإحاطة في أخبار غرناطة 3/198 (تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط2، 1393هـ)
6. الصلة 2/553.
أرسل تعليق