من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث [29]
العلامة سيدي عبد الله بن الصديق
هذا هو المقال التاسع والعشرون من هذه السلسلة المعنونة بـ “من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث”، وهو تتمة للذي سبقه، وقد خصصته لشخصية علمية كبيرة، وهو العلامة المطلع المحدث الناقد سيدي عبد الله بن الصديق رحمه الله، وأريد في هذا الجزء الثاني من المقالين المخَصَصَّيْن له أن أورد ما لم يتسع له المقام في المقال السابق مما يتعلق بحفظه، إذ إن هذا هو شرط الإيراد، وعلة الذكر.
ترجم الشيخ سيدي عبد الله بن الصديق لنفسه على عادة كثير من العلماء عموما ومن أهل الحديث خصوصا. وقد ذكر في غضون ترجمته هذه ما يدل على ملكة الحفظ القوية، والاطلاع الواسع على الحديث: متونا ورجالا، وصحة وضعفا، وقد ذكر عن نفسه رحمه الله أنه كان لما يدرس الأصول على شيخه بالأزهر الشيخ حامد جاد، وكان الكتاب المقرر هو منهاج البيضاوي بشرح الإسنوي، كانت تأتي في الدرس أحاديث يحتج بها المصنف أو الشارح، فكان الشيخ عبد الله بن الصديق يبين في المجلس رتبتها، ثم ظهر له تخريج أحاديث الكتاب فأنجز ذلك، وعمله في هذا الباب مطبوع ومتداول.
وذكر رحمه الله أنه كان يذهب إلى دار الكتب المصرية لمراجعة المخطوطات في علم الحديث من أجل هذا التخريج المذكور آنفا، ثم من أجل ما كان يكتب من مقالات.وقد حمله ذلك على قراءة كتب كثيرة كانت في زمنه مخطوطة كصحيح ابن حبان، ودلائل النبوة للبيهقي، وبيان الوهم والإيهام لابن القطان. وذكر أنه اطلع على ما ينيف على الخمسين ألف حديث -يعني بأسانيدها- وأنه حصلت له ملكة يعرف بها إذا سمع حديثا أين يوجد، وما هي مرتبته[1].
وهذه الملكة العظيمة في الاستحضار معروفة عن الشيخ سيدي عبد الله بن الصديق رحمه الله، وقد ذكر أنه زار المدينة النبوية الشريفة في إحدى زياراته لها، فزار الشيخ المحدث حمادا الأنصاري رحمه الله -وكان الشيخ سيدي عبد الله يثني عليه- فقال الشيخ حماد للشيخ عبد الله: “كلمة أشكلت عليّ في حديث لم أهتد لحلها، قلت ما هي؟ قال: في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج، قال الشيخ حماد: لم أفهم معنى كلمة الخزرج، فرجعت إلى “المسند” الذي حققه الشيخ أحمد شاكر فوجدته يقول: كذا بالأصل، ورجعت إلى “مجمع الزوائد” فوجدت فيه كلمة “الخزرج” كما هي، ولم أعرف معناها. قلت (القائل هو الشيخ سيدي عبد الله): والصواب: بالحزورة، كان سوقا بمكة، فقال: هذا هو الصواب”[2].
وكل من أخذ عن الشيخ سيدي عبد الله، أو تردد عليه، أو جمعته وإياه المجالس يقف على شيء من هذا الاستحضار العجيب، وكنت في بعض المرات أريد أن أعرف رأيه في قضية معينة، فأطالعها في الكتب المتوفرة، ثم أذهب إليه أسأله، فإذا به يجيب جواب مهيئ، كأنه قد فرغ من حينه من مطالعة هذه المسألة والنظر في أدلتها. وهذا الأمر عينه يحكيه أيضا تلميذه الأستاذ محمود ممدوح؛ فإنه قال: “وهو صاحب حافظة قوية لدرجة نادرة، واطلاع واسع… إذا سألت عن مسألة في أي فن تظن أنه قرأها الآن، ولا يعرف غيرها”[3].
وبالجملة فالرجل رحمه الله واسع الاطلاع، قوي الاستحضار، من العلماء المعاصرين ذوي الفهم والمعرفة، وممن يحق لقطرنا المغربي أن يفخر بهم ويباهي.
————————–
1. “سبيل التوفيق”، ص: 45- 46.
2. “سبيل التوفيق”، ص: 123- 124.
3. “تشنيف الأسماع”، ص: 350.
أرسل تعليق