من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث (12)
هذا هو المقال الثاني عشر مِن هذه السلسلة التي عنْوَنْتها بـ: “من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكُتب الحديث”، وسأسلك فيه غير النهج الذي سلكته فيما سبق، وذلك أني كنت أُعَيِّن لكل مقال نصابا ممن ذكروا بحفظ شيء من كتب الحديث مِن أهل هذه الجهة المغربية؛ وأُقَدِّم بين يديْ ذلك تمهيدا أعرض فيه لقضايا الحفظ، وطرق التعلم، ونحو هذا مما له شديد عُلُوق بالموضوع، وبمجال البحث تام اتصال.
وأجريت سابق هذه المقالات على نمط متحد: تمهيد تعقبه أسامي ثلاثةٍ من الحفاظ هم نصاب كل جزء من أجزاء هذه السلسلة.
وأما هذا المقال فإنه نمط جديد، وأنموذج فريد، إذ التمهيد فيه ممتزج بمن ذُكر بالحفظ امتزاجا، وحالٌّ فيه حلولا، فهو مفرد لعَلمٍ مُفرد، أقمته لعجيب حفظ هذا الإمام العلم مقام ثلاثة، فهو لوحده نصاب هذا الجزء، والتمهيدُ مرتبط به تعريفا، ثم تعليقا على ما ذكره بلسانه عن نفسه من الحفظ الباهر.
وتمهيد هذا الجزء وقفةٌ عند ظاهرة من الظاهرات الفريدة، وحالة من حالات الحفظ النادرة:
وقفةٌ عند إخبار إمامٍ ثقة حجة عن نفسه، وحكايته لحاله، في كتاب أملاه، حُفظ عنه وكَثُر رواته، أما الإمام فإنه حائز قصب السبق في الفقه والحديث وحامل لواء العربية: العلامة أبو ذر الخشني: مصعب بن أبي بكر بن محمد بن مسعود المتوفى بمدينة فاس سنة 604هـ. وأما الحكاية فقوله في مقدمة كتابه الماتع: “الإملاء المختصر في شرح غريب السير”: “وبعد فهذا إملاء أمليته من حفظي بلفظي على كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تقدم محمد بن إسحاق إلى جمعها وتلخيصها، وعني عبد الملك بن هشام بعده بتهذيبها وتخليصها، أوانَ سُمع هذا الكتاب مِني، وقُيّدَت رواياته بطرقها عني، قصدت فيه شرح ما استبهم من غريبه ومعانيه، وإيضاح ما التبس تفسيرُه على حامله وراويه، مع اختصار لا يخل، وإيجاز يتم به البيان ويستقل، لم يُقصد فيه قصد التأليف فتمد أطنابه، ولا يُنْحى به نحو التصنيف فتُمَهّد فصوله وأبوابه، وإنما هي عجالة الخاطر، وغنية الناظر، ثم عُرِض عليّ هذا الإملاء بعد كماله فتصفحته، ورُغِب في حمله عني، فبعد لأي ما أذنت في ذلك وأبحته، والله سبحانه ينفعنا بما قصدنا، ويجزل ثوابنا، على ما ابتغيناه فيه وتوخيناه”[1].
وهذا الحفظُ المُخْبَر عنه يُقضى منه بالعجب؛ لأن هذه السيرة تحوي جملة كثيرة جدا مما يُحتاج إلى بيان اشتقاقه، أو تفسير معناه، أو بيان سببه كأسماء الأعلام، والأماكن، والوقائع والأشعار، ونحو هذا، فالإحاطة بذلك حفظا، وإملاؤه ظاهرا من غير استعانة بكتاب أمر في غاية العجب.
فهذا الكتاب جراب علم، وجؤنة معرفة، فما شئت من بيان الاشتقاق وتفسير الغريب، مع النقل في مواضع عن الأئمة المعتمدين في هذا الباب، كالجوهري وابن دريد، وأصحاب الأغربة كأبي عبيد والخطابي وقاسم بن ثابت والوقشي.
وما شئت من ضبط ما يحتاج إلى ضبط من الأسماء، أو تعيين من المسَمَّيْن المشتركين في الأسماء والأنساب، وهو مما يعرف بالمؤتلف والمختلف، والمتفق والمفترق، والمشتبه، مع تزيين ذلك بالنقل في مواضع عن أئمة هذا الفن كالبخاري، والدراقطني، وعبد الغني، والغساني.
وما شئت من تفسير الأشعار، وشرح غريب ألفاظها، وبيان معانيها.
هذا مع ما انضاف إلى ذلك من سياق اختلاف الرواة فيما رووه من السيرة، وتصحيح بعض الأوهام التي وقعت من بعضهم في النقل، سواء في الألفاظ أو الأسماء، ومن هذا الأخير: “قوله: ابن سعد بن زرارة. كذا وقع، والصواب فيه: أسعد بن زرارة”[2].
والحاصل أنه لو اجتهد مجتهد فجمع هذا الكتاب من كتب صحاح، وأصول مضبوطة حاضرةٍ بين يديه، يتخير عيون ما فيها، ينقل منها نقلا، لكان في نهاية الحسن، فكيف إذا كان إملاءً من محفوظ؟ إن هذا لعمري لمُقْتعِدٌ من الحُسْن الغاية، ومن العجب النهاية.
يتبع إن شاء الله تعالى
———————-
1. “الإملاء المختصر في شرح غريب السير”، 1/72. (تحقيق د. عبد الكريم خليفة، دار البشير، الأردن، ط1: 1412/ 1991).
2. “الإملاء المختصر في شرح غريب السير”، 1/133.
أرسل تعليق