من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث (9)
هذا هو المقال التاسع من هذه السلسلة التي عنونتها بـ: “من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكتب الحديث”، وأحب في هذا الجزء قبل أن أورد نصاب هذا المقال من حفاظ كتب الحديث من أهل هذه الجهة الغربية أن أمهد لذلك بتمهيد على العادة الجارية في جميع مقالات هذه السلسلة.
تبدأ العناية بكتب العلم كالدارة، وتكون عند أهل العلم خاصة، ثم تتسع ويَعْظم قطرها حتى تصير دائرة تنتظم داخلَها أصنافا من الناس مختلفي المراتب، والذي يرجع إلى كتب التراجم ويلاحظ الأعلامَ الذين ذُكروا بحفظ كتب بعينها، في أي من فنون العلم؛ يلحظ أن ذلك الحفظ يكون أوّلا حكْرا على أهل العلم، ثم يتسع نطاق العناية حتى يَلْحق بهم في استظهار الكتب جماعةٌ ليس لهم مِن بضاعة العلم إلا المحفوظُ من هذه الكتب، وكثيرا ما يكونون بمعْزِل عن فهم قضاياها، وتحقيقِ مسائلها. واعْتَبِر بمتون الفقه السائرة في كل المذاهب، فإنك تجد لكل كتاب منها حُفّاظا كُثُرا، وأهلُ المعرفة من هؤلاء أقل عددا، فحفاظ المختصر الخليلي مثلا بين المالكية كثير، وما كل حافظ بفقيه. إلا أن دائرة الحُفّاظ لا يمكن أن تتسع هذا الاتساع إلا بوجود العناية التامة بذلك الكتاب مِن قِبل العلماء، فهم أول المعتنين به حِفظا، وتدريسا وشرحا ونحو هذا من صور العناية، ثم ينتقل منهم ذلك إلى سواهم، والمقدور عليه مِن صنوف الاعتناء المذكور هو الحفظ.
وعليه فشيوع حفظ كتاب بعينه دليل على استمرار تامِّ عنايةِ العلماء به، وقد وقفت على أمر عجيب يُبْنى عليه ما وقع استنْتاجه هنا، وهو ما ذكره ابن عرفة في التفسير[1] المنقولِ عنه عند قوله تعالى: “فإن طلقها فلا تحل له بعد حتى تنكح زوجا غيره”، فقدْ ذَكر هنا نازلةً في الخُلع، لرجل بالمغرب كان يلقب بالبُخاري؛ لأنه كان يحفظ صحيحه. وما نَقَل عن هذا الرجل يدل على أنه لم يكن من العلماء، ومع ذلك كان البخاري مِن جملة محْفُوظه، ولا يمكن أن تنتقل العناية بحفظ الصحيح إليه وإلى أمثاله حتى تكون قد اسْتُوفِيَت استيفاءً تاما مِن قِبَل العلماء، فهذا النقل يُسْتَشفّ منه ما كان يُولِيه أهل المغرب من العناية الكبرى للبخاري.
ولْنرجعْ الآن إلى سياق نِصَاب هذا الجزء من حفاظِ كُتب الحديث من أهل هذه الجهة المغربية.
فمنهم: أبو محمد عبد الغفور القيشاطي القرطبي (460)، قال ابن الأبار: “كان يحفظ الغريب المصنف لأبي عبيد ويثابر عليه”[2].
ومنهم: أبو المطرف عبد الرحمن بن قاسم الشعبي المالقي (499)، قال أبو الحسن النّباهي: “ويُذكر عن الفقيه أبي المطرف أنه كان يستحضر كتابيْ الموطأ والمدونة عن ظهر قلب، حرفاً حرفاً، ونصاً نصاً”[3].
ومنهم: أبو علي عمر بنُ أحمد بنِ عمر العمري الميورقي (628)، قال ابن الأبار: “وكان حافظا للرأي يستظهر الموطأ”[4].
وسأعود في المقال المقبل إن شاء الله إلى هذه القضية عينِها، مستعرضا طائفة أخرى من هؤلاء الحفاظ.
————————–
1. “تفسير ابن عرفة” 2/662، د. حسن المناعي، مركز البحوث بالكلية الزيتونية، تونس، ط1: 1986 م.
2. “التكملة لكتاب الصلة”، 23/130.
3. “المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا” ص108. دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط:5، 1403 هـ.
4. “التكملة لكتاب الصلة” 3/158.
-
بسم الله الرحمن الرحيم،
معنى قول ابن عرفة : "وهذا الرجل كان عالما" (وهذه عبارة ابن عرفة بخلاف ما ذكر المعلق أعلاه) أن هذا الرجل كان عالما أن الخلع يكون بغير لفظ الطلاق، ولذلك أُدب فحُد؛ لأن مسألة المدونة أنه إذا كان جاهلا يُعذر. فهذا معنى الكلام. ولو فرض أنه كان من العلماء فهل يتصور إنسان أنه يأدب ويحد لمجرد أنه أخطأ في مسألة اجتهد فيها.
فينبغي – أيها الإخوة الباحثون – على الإنسان قبل أن يعلق أن يفهم جيدا، وأن يكون ذا شفوف في النظر، وأن يكون مع كله ذلك متأدبا مع كبار القوم، والسلام. -
قلتُ: والذي في تفسير ابن عرفة رحمه الله وفي نفس الصفحة التي أحال عليها الكاتبُ هنا(2/662): "وكان هذا الرجلُ عالماً"، فلا أدري كيف نفَى الكاتبُ عنه أن يكون عالماً، مع أنها خلافُ عبارة ابن عرفة تماماً.
والله أعلمُ.
التعليقات