من الكتاب المستبين إلى الكتاب المبين
الحرف في القرآن المجيد يُرتّب، والكلمة تُرتّب، والجملة ترتّب، والمعنى يرتّب، والسورة تُرتّب، في نسقية معجزة، تُزري بجمالية الماس الأصفى؛ لأن الأنوار التي تبثها هذه المفردات بحروفها، وبفواصلها لا يمكن أن يحيط بها وصف واصف أبدا، فإرادة الإنسان، وقدرة الإنسان، حين تقترن بالطين بغية نحته فإن أقصى ما يمكن أن تصل إليه أن تصيّر هذا الطين تمثالا، لكن حين تقترن إرادة الله عز وجل بالطين؛ فإنها تصيّره أنت، تصيّره إنسانا ينظر إليك ويقول لك، ويعارضك، ويوافقك، وينصحك، وقد يثور في وجهك إذا لم ترد أن تنتفع بهذا النصح، إنسانا مبدعا له قوله، وله توقيعه، وله إحساسه، وكذلك حين تقترن إرادة الإنسان بالكلمة والحرف تصيرهما شعرا ونثرا، بيد أن إرادة الله عز وجل حين اقترنت بالكلمة وبالحرف؛ فإنها صيّرتهما قرآنا، وإن المقارنة بين الإنسان والقرآن، لهي دون حق القرآن المجيد، الذي قد قدَّر له قائله اللبث بين ظهراني الخلق والعباد إلى أن يأذن بغير ذلك “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” [الحجر، 9]. أما إن نحن نظرنا من هذه الزاوية إلى الخرائط، وإلى المعاني المَخمَلية التي يمكن استعراضها بالنظر إلى القرآن المجيد فإننا لن نفرغ من قريب.
بعد النظر في طبيعة القرآن المجيد من حيث أنه عصارة الأكوان، ومن حيث أنه أحسن الحديث، ومن حيث أنه أحسن ما أنزل إلى البشر؛ فإن من الأمور القمينة بالتدبير والتَّملي، قول الله عز وجل عن كتاب موسى عليه السلام، وهارون عليه السلام: “وءَاتيناهما الكتاب المستبين” [الصافات، 117]، وقوله سبحانه عن هذا القرآن: “طس تلك ءَايات القرءان وكتاب مبين” [النمل، 1]، فما الفرق بين الكتاب المستبين والكتاب المبين؟ الكتاب المستبين أوحي به في مرحلة لم يكتمل فيها بناء النبوة الذي عبّر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ، قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ“[1]. وكان هذا الوحي الذي جاء مصدقا لما بين يديه، ومهيمنا عليه، خاتمة الوحي وجامعه، والذي لا يتنكر لما قبله، بل يصدق على ما هو أصيل أثيل فيه، ويهيمن عليه بهذا الانفتاح على كل زمان، وكل مكان، وكل إنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فالفرق إذن بين الكتاب المستبين والكتاب المبين، هو أن الكتاب المستبين جاء لقوم مخصوصين، وفيه هدى ونور يحكم به النبيئون، كما قال الله عز وجل في حق التوراة، لكن القرآن الكتاب المبين جاء لكي يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن وما عليها.
والله المستعــان.
————————–
1. صحيح البخاري، رقم الحديث: 3294.
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق