من استغرب أن ينقذه الله من شهوته..!!
قال الله تقدست أسماؤه: “نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الاَلِيم” [الحجر، 50] وقال جل شأنه: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” [الزمر، 50].
من مظاهر ضعف الإنسان تسلط غرائزه الشهوانية عليه في كثير من الأحوال والظروف بحيث تشل قدرته على انتشال نفسه من أوحال الهوى والسقوط في حضيضها السافل. وقد ترى كثيرا من الناس يتقلبون في أسر شهواتهم بعيدا عن ميزان العقل وتدبيره.. يريد أحدهم أن يصطلح مع الله عز وجل، وأن يرجع إلى هداه وأن ينقاد لأمره، ولكنه يشعر في الوقت نفسه بوطأة أهوائه وشهواته، ويجد نفسه أسيرا تحت سلطانها، وعندئذ يستحوذ عليه الوسواس بأنه أضعف من أن يقاوم رغائب شهواته، ويؤكد له بأنه سيظل خاضعا لحكمها، مستجيبا لدواعيها… وربما ذكره بعدد المرات الكثيرة دعته رغباته النفيسة فيها إلى ما لا يتفق مع قرار العقل وسنن الرشد فسقط في مهاوي الرذيلة والفساد..
وفي هذا السياق حدثني أحد الشباب ذات مرة أنه كان يعاني من وسواس قاهر لا يكاد يزايله أو ينفك عنه يهتف به قائلا: “صل ما شئت أو صم ما شئت؛ فإنك من أهل النار قطعا” يعني مهما صنعت فإنك من أهل النار فقلت له: حاور هذا الوسواس.. أدخل معه في حوار.. قل له من أنت؟ وما شأنك؟ بقرار يرجع إلى الملك الواحد الأحد؟ الله جلّ في علاه هو الذي له الحكم وحده في هذه القضية إن شاء رحمني وإن شاء عذبني، لا شأن لك في مصيري وبعد مدة أخبرني أنه تركه.
فشأن المؤمن بالله- إذا انتبه إلى ضعفه ورأى خطر طغيان البلايا والفتن تحدق به، وأدرك عجزه عن مقاومته وتحمله- أن يفر إلى الباري جل جلاله يستنجد به ويلجأ إليه ويدعوه ويستغيث به؛ أن يرد عنه غائلة أهوائه، وأن يخرجه من وجود غفلته، وشأن الله الكريم الذي لا تتخطاه الآمال أن يغيثه وينقذه ويدخله في كلاءته وحرزه، وأن يستجيب دعاءه.. أنظر إلى دعاء يوسف عليه السلام وهو يعلن له عن ضعفه وبالغ عجزه أمام جيش الإغراء “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” [يوسف، 33-34].
والناس في هذا الباب ثلاثة:
الأول: رجل قام بالواجب والمندوب لأمر الله أو لثوابه أو حذرا من سخطه وعقابه؛ وهذا من الفائزين..
والثاني: رجل قام بالواجب دون زائد عليه؛ فهذا من المفلحين لقوله صلى الله عليه وسلم “أفلح إن صدق”. والثالث: رجل انغمس في شهواتهن فقصر في الواجب وتورط في غفلته؛ فهذا من الهالكين إلا أن يتداركه مولاه بتوبة صادقة أو مغفرة لاحقة… وحقه أن يتوجه لمولاه في إنقاذه وألا ييأس من رحمته؛ لأن يأسه أعظم من ذنبه كما نبه إليه تاج العارفين أحمد ابن عطاء الله السكندري: “من استغرب أن ينقذه الله من شهوته وأن يخرجه من وجود غفلته فقد استعجز القدرة الإلهية “وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا” [الكهف، 44].
قوله من استغرب أي من استبعد ورأى أن ينقذه الله من شهوته وتسلط نفسه ووجود غفلته غريب الوقوع فهذا نقص في كمال اليقين في القدرة الإلهية ونفوذ حكمها.. ودفع هذا النقص يكون بثلاثة أشياء: أولها: العلم بكرم الله الذي لا يتوقف على علة ولا سبب. ومنه ينبعث الرجاء الحامل على نفي اليأس والثاني: العلم باتساع علم الله بالخلق في الحال والمآل وفي العاجل والآجل.. ويتأكد هذا بمطالعة تراجم كثير من الصالحين الربانيين الذين كانت بدايتهم منخرمة ثم أنقذهم الله من عظيم الجنايات كإبراهيم بن أدهم، ومالك بن دينار، وبشر الحافي وغيرهم..
والثالث: العلم باتساع قدرة الله سبحانه “وكان الله على كل شيء مقتدرا” [الكهف، 44] ومن جملة الأشياء أوصاف هذا الإنسان قبيحها وحسنها وتقلبات أحواله فلا يسوغ له أن ييأس كما لا ينبغي له أن يتغير.. ولله در الشيخ أبي محمد بن أبي زيد القيرواني حيث يقول في رسالته “وليلجأ إلى الله فيما عسر عليه من قيادة نفسه ومحاولة أمره موقنا أنه المالك لصلاح شأنه وتوفيقه وتسديده لا يفارق ذلك على ما كان منه من حسن أو قبيح ولا ييأس من رحمة الله..”.
اللهم توبة ومغفرة سموحا وروحا من أمرك بكرمك يا خير الغافرين ويا أكرم الأكرمين ويا أرحم الرحمين، آمين.
أرسل تعليق