من أسرار الحج (1)
قال الله تقدست أسماؤه: “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ” [الحج، 26-29].
في قمة الأعمال الصالحة التي يقوم المسلمون بها في هذه الأيام المباركة أداء مناسك الحج، وهذا الركن العظيم في الإسلام هو آخر ما فرض من الشعائر والعبادات التي رسم الله حدودها ومعالمها، والحج هو تلكم الرحلة الفريدة في عالم السياحة والأسفار، ينتقل المسلم فيها بقلبه وبدنه إلى البلد الأمين الذي أقسم الله تعالى به؛ للوقوف بعرفات، والطواف ببيت الله الحرام الذي جعله معلما للتوحيد، ورمزا لوحدة المؤمنين به، ففرض على المسلم أن يستقبله كل يوم في صلواته: “وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ” [البقرة، 144]، ثم فرض عليه أن يقصده بشخصه ويطوف به في العمر مرة واحدة، فكل من أسلم واستطاع إليه سبيلا، وجب عليه أن يأتيه ويظهر إسلامه عند معلمه، والإسلام هو تسليم النفس لله انقيادا وخضوعا، ولذلك قيل حجة الإسلام، فإذا حج الإنسان مرة أخرى فإنما يجدد في كل مرة معنى إسلامه لله تعالى؛ لأنه كلما أذنب دخل الخلل في دينه، ويرجف بعض الناس بالقول إن أعمال الحج أعمال مبهمة أو غامضة، وأن الله جل وعلا اختبرهم فيها بما لا يعقلون. وهذا القول بعيد عن الصواب، والحق أن لمناسك الحج حكما وأسرارا عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من وجهلها.
فاعلم أيها القارئ الكريم، نوّر الله قلبي وقلبك، أن في الحج سرا من أسرار الله تبارك وتعالى، وهو أنه وضع على مثال سفر الآخرة، فتذكر عند وداعك لأهلك وأصدقائك في المطار وداع الأهل والأحباب عند سكرات الموت، وتذكر من مفارقة أرض الوطن مفارقة أرض الدنيا.
واعلم أن الله تبارك وتعالى شرف عباده بأن استدعاهم لمحل كرامته، والوصول إلى بيته، ولما كان الله منزها عن الحلول في مكان، أقام البيت الحرام مقام بيت الملك؛ لأن الملك في الدنيا إذا شرف أحدا في الدنيا دعاه لحضرته، ومكنه من جواره، وأمره باللياذ به، فجدير به حينئذ أن يقضي حوائجه.
وكذلك الله عز وجل -ولله المثل الأعلى- استدعى عباده لبيته الحرام، وأقام الحجر الأسود مقام يد الملك، فأمرهم بتقبيله، وأمرهم بطلب حوائجهم، وإذا كان اللائق بملوك قضاء الناس في هذه الحالة، فكيف بملك الملوك الذي يقضي ويعطي بغير سؤال.
وشرع الغسل عند الإحرام إشارة إلى أن من استدعاه الملك ينبغي أن يكون على أكمل الحالات، ويطهر قلبه ولسانه، إذ الظاهر ينبغي أن يكون على أكمل الحالات، إذ الظاهر تبع للباطن، فإذا أمر بتطهير الظاهر فالباطن أولى.
وشرع للمحرم خلع الثياب إشعارا له بحالة المتجرد لله في كل حركاته وسكناته، وتشبها بكليم الله موسى عليه السلام، إذ قال له تعالى: “إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى” [طه، 12].
فكذلك الحاج قاصد إلى الله جل وعلا، وقادم على زيارة بيته، وداخل إلى الأرض المباركة التي حرمها الله كما قال صلى الله عليه وسلم: “إن هذا البلد -يعني مكة- حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد -يقطع- شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يحل ساقطتها إلا لمنشد /المنشد المعرف/، ومنى ومزدلفة من الحرم وشجر المدينة وصيدها كحرم مكة” [حديث متفق على صحته، رواه البخاري في صحيحه: 3189].
وفي الإحرام ينزع الإنسان ثيابه ليكتفي بثوبين أبيضين يتمثل فيهما معنى فطرة الإسلام ونصاعته، ويتمثل فيهما معنى الإنسان كما خلقه الله أول يوم، ومعنى الإنسان كما سيصير آخر يوم، وعود بالإنسان إلى أصله الحقيقي الذي يشمل جميع الناس بمعزل عن عاداتهم وألوانهم وأجناسهم وأعراقهم… فهذه الاعتبارات والفوارق عرض زائل، ويبقى الجوهر الأصل: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير” [الحجرات، 13].
يتبع
أرسل تعليق