“من أذن له في التعبير ، فهمت في مسامع الخلق عبارته ، وجليت إليهم إشارته”
من الحكم العطائية نسبة إلى العالم الفقيه والصوفي الجليل سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري (1260-1309ﻫ) كتب الله -عز وجل- لها القبول عند عامة الناس وخاصتهم، وهي جواهر فريدة في أصول الأخلاق والسلوك ودرر تليدة في قواعد السير إلى ملك الملوك، لها من الشروح ما يند عن الحصر والعد، مغربا ومشرقا، وترجمت إلى عدة لغات.
في هذه الحكمة المباركة يروم الشيخ ابن عطاء الله إبراز الصلة بين الإذن الرباني وبين الفاعلية في التبليغ، حاصرا تجليات هذه الفاعلية في سمتين:
أولاهما: فهم الخلق عبارة المبلغ، وثانيهما: تجلي إشارته إليهم.
وفي هذه الحكمة حضور خمسة أمور متكاملة:
أولها: الإخلاص في القول والعمل لله تعالى.. فأهل الإذن لا يرومون رياسة: “ما كان لبشر اَن يوتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون” [ال عمران: 78]. كما أنهم لا يسألون أجرا “ويا قوم لا أسئلكم عليه مالا اِن اَجري إلا على الله” [هود: 29].
ثانيها: التوكل على الله في التبليغ والتحلي بخصال التجرد وعدم الحرص إلا على أداء أمانة التبليغ. “بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته” [المائدة: 69]، ودليل هذا التوكل وعدم الحرص، قوله تعالى على لسان عبده ونبيه نوح عليه السلام: “يا قوم أرآيتم إن كنت على بينة من ربي وءاتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون “[هود: 28].
ثالثها: أن الخلق قلبيا، وحدة، وهم ينفعلون لأمر الله وبه، يشهد لذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: “إنما قلوب العباد بين أصبعي الرحمن، إنه إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه” [مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث: 25549]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، جبريل فيحبه، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض” [صحيح البخاري، رقم الحديث: 5609]. فحين يكون الإذن، يكون البلاغ مبينا، ويفهم الخلق بناء على هذا الانفعال المشترك عبارة المبلغ المأذون، وإشارته، وهو ما وقع مع نبي الختم -صلى الله عليه وسلم- حين أذن له الباري في التبليغ بمثل قوله تعالى: “يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس” [المائدة: 69]. حيث كانت تكفي منه -عليه الصلاة والسلام- الكلمة في العبارة، واللمحة في الإشارة. وكذا على أقدارهم كمل ورثته.
رابعها: أن الإذن الرباني لا يتنزل إلا على محاله: “الله أعلم حيث يجعل رسالاته” [الانعام: 125]، ومن مواصفات أهل الإذن الاستقامة: “فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا اِنه بما تعملون بصير” [هود: 112].
ومن مواصفاتهم الإتيان بالصدق والتصديق به، وهو قوله تعالى: “والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون” [الزمر: 32] فقد قال أحد الأعراب وكان حديث عهد بإسلام جوابا عن سؤال من سأله، لم آمنت بهذا الرجل؟ “ما رأيته أمر بخير إلا وكان أسرع الناس إليه، ولا نهى عن سوء إلا وكان أبعد الناس عنه”.
وخامسها: أن يكون المأذون من أنفس المأذون فيهم، عليما بما سيبلغهم إياه من أمر الله، وداريا بهم وبأحوالهم وسياقاتهم، وتربطه بهم وشائج تجعله لا يحب لهم العنت، حريصا عليهم، وبهم رؤوفا رحيما وهو قوله تعالى في حق أكمل من حلي بإذن، وأرسل إلى الثقلين من إنس وجن: “لقد جاءكم رسول من اَنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رءوف رحيم” [التوبة: 129].
ومن حلي بتاج الإذن، تيسر البلاغ على لسانه وبنانه، وتجلت الإشارة من جنانه وبكيانه، وغاب عن تعبيره العي والإملاق، واضمحل من إشارته الغموض والاستغلاق.
والله الهادي إلى سواء السبيل
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
الوسوم
الإخلاص في القول والعمل-
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
نشكر السيد الأستاذ أمين عام الرابطة المحمدية للعلماء على هذا الشرح المتميز للحكم العطائية، وعلى حرصه الشديد على إحياء هذا التراث. -
بسم الله الرحمن الرحيم
نشكر السيد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء على طرحه وشرحه لهذه الحكمة، كما أود أن أشيد بأن الأبجدية بدأت تعجز عن التعبير وعن إيجاد كلمات تشمل كل المعاني لتوفي لكم حقكم في عطائكم المتميز.
التجــــــــــــــــليلغة: جلا الأمر جلاء وضح، جلا السيف والفضة والمرآة ونحوها كشف صدأها وصقلها، وأجلى عنه الهم: أزاله وكشفه. كما في الوسيط.
واصطلاحا: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب كما يعرفه الغزالي، وهذا التعريف لا يختلف- كثيرا- عن تعريفات قدماء الصوفية، كالسّرّاج الطوسي، والكلاّباذي، والقشيري، والهجويري وغيرهم؛ وإن كنا نجد- عندهم- بعض استطرادات تتعلق بأحوال "التجلي" ومظاهره المختلفة لكنها لا تمس- في جملتها- هذا المفهوم البسيط الذي لخصه الإمام الغزالي في تعريفه السابق.
فالكلاّباذي- مثلا- يهتم ببيان أحوال ثلاثة للتجلي، هي: "تجلى الذات"، وتجلي الصفات"، و"تجلى حكم الذات"، ويعنى بالتجلي الأول: رؤية الله تعالى، وهي في الدنيا: رؤية كشفية- لا عيانية-، ويدركها السالك بقلبه ووجدانه، وفي الآخرة: رؤية عيانية، أو: كشف عياني. ويعنى بالتجلي الثاني: تجلى "الحق" بإحدى صفاته أو بصفاته كلها، كأن يتجلى على عبده بصفة القدرة، فلا يخاف غيره ولا يرجو سواه.
أما التجلي الثالث فهو من تجليات الآخرة، ويتمثل في انقسام الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير..ويفرق الهجويري بين التجلي بمعنى "الكشف القلبي" في الدنيا، والتجلي بمعنى "الكشف العياني" في الآخرة، بأن التجلي في الدنيا يحصل في وقت ولا يحصل في وقت آخر، والستر يعقب هذا التجلي، ويحجبه، بخلاف أهل العيان في الجنة، فإنهم في تجل دائم لا ينقطع؛ ولأن تجلى العيان "رؤية" حقيقية فإنه لا يجوز عليه الستر ولا الحجاب.
ويستروح الصوفية في أحاديثهم عن تجلى الدنيا بإشارات ولطائف من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "اعبد الله كأنك تراه" ، وقول عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما: "كنا نتراءى الله في ذلك المكان (الطواف) ".
التعليقات