منهج الإمام مالك في الفتوى
إن المطلع على موطإ الإمام مالك يجده كتاب فقه وحديث؛ تنطلق فتاويـه من أسئلة محتملة وإيرادات، يأتي نصها -في الغالب- قصيرا، وقد تطول -حسب المقام-.
وكان رحمه الله يقدم القرآن في فتواه، ويستعين في فهمه بالسنة، ويشدد في رواية الحديث حتى لا يختلط صحيح بسقيم، ويأخذ بعمل أهل المدينة، ويقدمه على خبر الآحاد.
وبعد الكتاب والسنة كان يأخذ بفتوى الصحابة صلى الله عليه وسلم؛ لما لهم من فضل الصحبة والسبق.
وكان يأخذ بعمل أهل المدينة ويعتبره إجماعا.
ومن وقوفه في المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوصات ما سلك به سبيل السلف الصالح في ترجيح الاتباع وكراهة الابتداع.
ومن مميزات منهجه في الفتوى:
الاختصار وعدم الإطالة في الحديث بلا فائدة، والتثبت والتحري والأناة، وعدم القطع فيما لم يقطع به الدليل؛ ولا أدل على ذلك من حرجه في إطلاق لفظ “الحرام” فيما لم يقطع به الدليل؛ وكان يقول في ذلك: لا أحب كذا وأكره كذا.
ويقوم منهجه على التيسير لا التعسير، والاعتماد على الحجة والدليل، والتحرر من العصبية والتقليد، وإن أخطأ وتبين له خطؤه عاد إلى الصواب وأنصف المخالف، وإن سئل عما لا علم له به؛ قال: “لا أدري”، وكان يتجنب الافتراضات في أجوبته ويكره التكلف، ورفض أن يحمل الناس على كتابه وموطئه لما اقترح عليه ذلك أبو جعفر المنصور.
وفتاوى الإمام مالك بعضها خـال من التعليل والتدليل، وبعضها معلل ومصحوب بالدليل، وقد يكون هذا المنهج في التعليل وعدمه أحيانا يعود إلى كون المسألة لا يرى لها علة، أو لا يجد مسوغا لإيرادها، وقد يكون ذكر العلة في موطن؛ فلا يعيدها في آخر.
ويطيل القول أحيانا في بعض المسائل؛ ليخلصها من الإبهام والغموض والإشكال؛ فيورد الحديث أو الأثر إن كان نصا في المسألة.
ومنهجه فريد؛ يأخذ المسألة فيورد حكمها معتمدا في ذلك على القرآن والسنة، و يذكر أقوال وآراء أشهر الصحابة الذين لهم قدم راسخ في العلم كعمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وابن عباس وغيرهم، ويعتمد على المصلحة والاستحسان وسد الذرائع ومراعاة المقاصد؛ فينظر إلى المصالح ويوازن بينها وبين المفاسد؛ فما رآه يحقق المصلحة حكم فيه بالجواز وما رآه يؤدي إلى مفسدة وضرر حكم بعدم الجواز.
ومن منهجه في الفتوى كذلك: الاستقلال في الفهم والبعد عن العصبية، وأخذ واقع الناس بعين الاعتبار، وترجيح الرخصة واختيار التيسير إذا ظهرت الحاجة لذلك، وتطبيق سد الذرائع، ومراعاة الضرورات التي تطرأ في حياة الناس، ويربط بعض الأحكام بمقاصد الشريعة، ويقيد الفتوى بقيود وضوابط؛ إن اقتضى الأمر ذلك.
ويتجنب الفقه التقديري؛ فإذا سأله رجل عن مسألة لم تقع، أو ما لا فائدة فيه؛ قال له: “لو سألت عما تنتفع به أجبتك”[1].
ومالك في امتناعه عن مسايرة الفرض والتقدير كان يلاحظ أمرين:
أحدهما: أن مسايرة شهوة العقل في الفرض والتقدير قد تدفع صاحبها منساقا وراء تطلع الفكر إلى مخالفة بعض الآثار عن غير بينة، والإفتاء بغير علم ولا سلطان من كتاب أو سنة.
ثانيهما أن الإفتاء ابتلاء وامتحان للعالم لا يقدم عليه إلا لإرشاد الناس في أعمالهم، وحملهم على الوقوف بها في دائرة الدين الحنيف[2].
وكان يكره الجدل ويراه مفسدا للدين، ومبعدا للناس عن الوحي، فلم يكن من منهجه في العلم الخوض في الجدل والخصومة.
قال الشافعي: كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما أنا فإني على بينة من ديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه[3].
وتتميز فتاواه بسهولة ودقة العبارة، ويتجنب المصطلحات الغامضة والألفاظ الغـريبة، ويترك التكلف في استخدام العبارات الصعبة والأساليب المعقدة؛ لذا جاءت لغته سهلة قريبة مأنوسة – يفهمها العام والخاص- على الرغم من أنه أحد أعلام الإسلام، ويذكر الفتوى أحيانا مقرونة بالحكمة والعلة؛ ليزيل الحرج والارتياب من صدور المستفتين، وهذا هو منهج القرآن في ذكر العلل بعد الأحكام أحيانا،: “وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض” [سورة البقرة، الآية: 222]. وكذلك فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يتجلى فيها هذا المنهج بجلاء.
وإذا توقع اعتراضا من المخالف يأتي به وخصوصا إن كان هذا الاعتراض قويا، ثم يرد عليه.
ومبنى فقهه على القرآن الكريم والسنة الثابتة، وبعدها على قضايا عمر، وبعده على فتاوى ابن عمر، وبعد ذلك على فتاوى الصحابة وفقهاء المدينة من التابعين.
واختياره لآراء عمر؛ يرجع لكون آرائه كانت موافقة للوحي غالبا.
وأما اختياره لآراء عبد الله بن عمر فلسعة اطلاعه؛ وملازمته النبي صلى الله عليه وسلم وشدة تمسكه بالسنة.
واختيار أقوال التابعين من أهل المدينة؛ فلأن أهل المدينة كانوا أقرب إلى السنة من غيرهم؛ لتواتر بعض السنن العملية وحفاظ أهل المدينة عليها كما ورثوها.
ويتميز بالاختصار وعدم الإطالة في الحديث بلا فائدة.
قال ابن العربي: بناه مالك على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه، التي يرجع إليها في مسائله وفروعه[4].
وانتهت الفتوى وطرائق الاجتهاد للإمام مالك في المدينة بصفة انفرادية بعد موت شيوخه وأقرانه، وقصد من جميع الأقطار الإسلامية للأخذ عنه، وحمل كتاب الموطأ عنه، وشرق الناس بفتاواه وبكتابه وغربوا، ولم يبق صقع من أصقاع الإسلام، إلا ودخله الموطأ بإحدى رواياته.
وكان ما روي عن مالك ونقل عنه من الفتاوى كثيرا جدا، فقد نقل عنه ابن القاسم وحده من أصحابه ما يضاهي أربعين ألف فتوى في المدونة، وفي أسمعة أصحابه الآخرين شيء كثير، ومرد ذلك إلى أسباب:
1. أن مالكا انتهت إليه رئاسة العلم بالمدينة النبوية.
2. ثقة الناس بعلم أهل المدينة، وبفتاويهم، وحبهم الخالص لعلمائها.
3. وراثة الإمام مالك لعلم من سبقه من علماء المدينة المنورة.
4. شهادة كبار الحفاظ له بالإتقان والتحري، والسداد في الأقوال والأفعال، مع ورعه وإنصافه.
هذه الأمور كلها مجتمعة، إذا لوحظت فإنها تستشف منها خصائص وأمور تكتنف هذا المذهب في طور التأسيس، ويمكن إجمالها فيما يلي:
أ. شدة اهتمام مالك -رحمه الله- بالاستدلال بالسنة والآثار، والناظر في الموطأ يدرك أنه في جميع أبوابه مبني على السنن، وليس ذلك بعجب بعد ما علمنا مبلغ مالك علم بالرواية والدراية.
ب. الحرص الشديد على الاقتداء والاهتداء بمن سلف من المتقدمين، ويتجلى ذلك في عمل أهل المدينة، الذي يجسد عند مالك النـزوع إلى ما جرى به عمل من تقدم بالمدينة النبوية، وقد لا يخلو باب أو مسألة من المسائل في الموطأ إلا ويؤكد مالك- رحمه الله هذا الأصل بقوله: “وعلى هذا الأمر عندنا”، أو “الأمر المجمع عليه عندنا” أو: “وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا” أو “والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا”، وما أشبه هذه العبارات التي تنم بشدة اللصوق بمن مضى، والاعتداد بأقوالهم، وتوظيفها في القضايا العملية.
ج. التقليل من استعمال الرأي والقياس، بالنسبة لاستعمال الآثار، وهذا لا يعني أن مالكا لا يستعملهما، وإنما يعني أنه قلص منهما ولم يكثر؛ لأن ما معه من السنن والآثار، أغنتْه فيما يجد من الحوادث عن استعمال ذلك.
د. ربط الفقه والاستدلال والاستنباط بالدليل، وجعله الحجة للفتوى، فمالك لا يبوب على مسألة إلا ويذكر لها دليلا ولا يطلق القضايا على عواهنها، ولا يرسلها إرسالا، كما هو دأب المتأخرين من المنتسبين لمذهبه.
وهذا الأمر هو ركيزة الفقه عند المتقدمين عامة، وإن كانوا يتفاوتون في ذلك، ففي تلك العصور لم يعرف انفصال الفقه عن الدليل، ولا بعده عنه؛ لأنه إنما سمي دليلا؛ لأنه دال على الفقه ومنتج له، وسبب له، وعلة فيه، والعقل لا يقبل انفصال المسبب عن سببه، ولا المعلول عن علته، والواقع العلمي للشرع لا يقبل ذلك أيضا؛ لأن مرد الأمور، إلى تحكيم النصوص في القضايا كلها، لا إلى تحكيم أهوائهم وأذواقهم، فالنصوص هي الدساتير التي يخنع لها الجميع، وإنما يتحاور الفقهاء ويتناظرون في فهم المراد منها، وفي إدراك مقاصدها، وفي كيفية تنـزيلها بعد فقهها، وفي باب مقاصدها وكيفيات تنـزيلها يتفاضلون ويتفاوتون.
هـ. مراعاة المقاصد والمآلات، الذي يتجلى في سد الذرائع، واستعمال المصالح المرسلة.
و. الاحتفاء بأقوال الصحابة، وتحكيمها في فهم النصوص المحتملة وخاصة أقوال الخلفاء الأربعة، وأقوال ابن عمر -رضي الله عنهما-.
هذه أهم الخصائص التي بثها مالك في موطئه، واعتمدها في فقهه وبناء مذهبه، ومن درس الموطأ بعناية فإنه يستطيع أن يدركها وأن يحيط بها علما[5].
———————–
1. القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعيان مذهب مالك، تحقيق: أحمد بكير محمود ج:1، ص: 151.
2. أبو زهرة، مالك حياته وعصره آراؤه وفقهه، ص:47.
3. الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج:8، ص:99.
4. صديق حسن القنوجي، الحطة فى ذكر الصحاح الستة، ج:1، ص:148.
5. الحسن آيت سعيد، المدرسة المالكية الأولى-عصر الإمام مالك-، ص:9.
أرسل تعليق