مقاصد العمران الصوفي.. (3)
ضمن نفس الأفق يمكن الحديث عن بيت آل أمغار الذي أنجب أعلاما وأئمة ساهموا بحظ وافر في نشر العلم والصلاح بالمغرب. قال ابن عبد العظيم الأزموري في كتابه المخطوط “بهجة الناظرين وأنس العارفين” (الخزانة العامة بالرباط تحت رقم: 3770) عن مؤسس رباط تيط الشيخ أبو عبد الله أمغار: “أن شهرة أبي عبد الله أمغار الذي خلف والده أبا جعفر إسحاق على القيادة الدينية لمجتمع آزمور قد امتدت من الإسكندرية إلى السوس الأقصى، كما امتدت من حيث الزمان على طول فترات حكم كل من يوسف ابن تاشفين وابنه علي الذي كان يعتبر أبا عبد الله محمد أمغار “شيخ المشايخ” وقدوة الأولياء، وعهدة الأصفياء..”.
إن هذا يبرز في اعتقادي مركزية رباط “تيطنفطر” العلمية والروحية خصوصا خلال مشيخة أبي عبد الله الذي جمع حوله ثلة من رواد العلم والصلاح في عصره ضمن “إستراتيجية” علمية وتربوية لنشر العلم ومكارم الأخلاق في بعد رسالي واضح المعالم… كما سيسطع نجم حفيده محمد أمغار الصغير شيخ الإمام محمد بن سليمان الجزولي؛ فقد قضى سيدي محمد بن سليمان الجزولي ما شاء الله من زمن في فاس قبل أن يرحل للاتصال بأبي عبد الله محمد أمغار الصغير بمدينة تيط، إثر ذلك دخل في خلوة طويلة مكث فيها صحبة سيدي أمغار برباط تيط حوالي أربعة عشر عاما، وخلالها ختم الإمام الجزولي مع المريدين عشرات الآلاف من “الدلائل”… ولقد تواتر العلم والصلاح في أسرة آل امغار بحيث نجد فروع هذه الزاوية تنتشر في الزمان والمكان..
قال ابن قنفذ في “أنس الفقير وعز الحقير” عن بيت آل أمغار: “هذا البيت أكبر بيت في المغرب في الصلاح لأنهم يتوارثونه كما يثوارت الناس المال ومازالوا إلى الآن يتوارثونه والغالب أنهم أعلام في الصلاح رضي الله عنهم، وقال بن الزيات التادلي في “التشوف”: “أنهم يتوارثون الصلاح خلفا عن سلف“…
وقد أثار انتباهي ما ذكره ابن عبد العظيم الأزموري في “بهجة الناظرين” أن شيوخ الزاوية “الأمغارية” بدءً بأبي جعفر إسحاق والد أبي عبد الله أمغار كانوا يقتاتون من طعام الكون، وهذه العبارة الكونية حاملة لدلالات فكرية وثقافية عميقة وتدل لا محالة على إحساس عميق بالطبيعة والكون على اعتبار أن الإنسان جزء من المنظومة الكونية ووجب عليه الارتباط الفعلي بالأرض بما ينسجم مع أصله الكوني..
خلال القرن العاشر الهجري سينبري عالم من بيت آل أمغار لنشر العلم والصلاح بناحية مراكش، فقام بتأسيس زاوية بتامصلوحت بتشجيع من شيخه وأستاذه الكبير عبد الله الغزواني مول لقصور تلميذ عبد العزيز التباع تلميذ الإمام الجزولي، يتعلق الأمر بعبد الله بن حسين الأمغاري…
يقول ابن عسكر في دوحة الناشر: “ومنهم أعجوبة الدهر الشيخ الولي ذو المناقب التي لا تحصى كثرة أبو أحمد عبد الله بن حسين الحسني، من شرفاء بني أمغار أهل عين الفطر الذين ألف في مناقبهم صاحب “التشوف” والتجيبي ومحمد بن عياض وغيرهم. كان هذا الشيخ من أصحاب الشيخ سيدي أبي محمد الغزواني…
ويفيدنا ابن عسكر بخبر مفيد، هو استمرار لما ذكرته حول سيدي الغزواني مول القصور فيما يخص عمارة القفار وجلب النماء والماء وتدبير المجال، يقول فيه: “حدثني الرضى الشيخ أبي إبراهيم المدفون بقرية تامصلوحت على نصف مرحلة من مراكش، والقرية المذكورة خالية متعطشة لا ماء بها، وكان والدي في جملته، فالتفت إليه الشيخ وقال له: يا عبد الله هذا موضعك وإن الله يحيي عمرانه على يديك، فانزل بأهلك وولدك.. قال فارتحل والدي وليس معه أحد إلا أنا وأمي وبقرة واحدة وتلّيس على عاتقه لفراشه، فنزلنا بتامصلوحت والأرض خالية مقفرة لا أنيس بها، فاستوحشت أنا وأمي وقلت هذا تغريز..”[1].
سار عبد الله بن حسين على منهج أستاذه الغزواني، وبدأ مشروعه التعميري خطوة خطوة عبر استصلاح الأراضي وشق السواقي ومحاربة الحيوانات المؤذية للمحصول مثل البرطال والجراد… وما أريد التأكيد عليه هنا هو التقاء عنصرين أساسيين ساهما في تحويل تامصلوحت من مكان جذب قفر إلى مجال خصب وهما: وراثة الصلاح وفقه “العمارة” من أسرة آل أمغار العريقة والتأثير الكبير للشيخ الغزواني، “الفلاح” المربي الكبير الذي كان يمزج بين البحث عن “النقطة الأزلية” وامتداداتها في العالم الأرضي عبر معانقة التراب والتمتع برائحته الكونية والتحقق الميداني من أسرار الخلق عبر تفجير المياه وإنبات النبات..
ويؤكد مسار صوفي آخر من القرن العاشر الهجري في سهل تادلة مقاصد العمران الصوفي كما حاولت إبراز بعض أسسه أعلاه؛ يتعلق الأمر بأبي عبيد الشرقي مؤسس مدينة أبي الجعد.
فبعد وفاة الشيخ أمسناو شيخ زاوية الصومعة، سيعود أبو عبيد الشرقي إلى زاوية والده بتادلا، ليأخذ عنه الطريقة التباعية الجزولية لصاحبها الشيخ الشهير سيدي عبد العزيز التباع كأخذ أول، وقد تزكى هذا الأخذ خلال الرحلة المراكشية التي التقى فيها أبو عبيد بأقطاب التباعية-الجزولية كالشيخ عبد الله بن ساسي دفين ضاحية مراكش، وتلميذ الإمام الغزواني مول لقصور، والشيخ القسطلي..
يقول الناصري في “الاستقصا” عن أبي عبيد الشرقي: “كان من أكابر أهل وقته… وتخرج به جماعة من الأولياء، وبعث إليه المنصور (الذهبي) جماعة يختبرونه فظهرت لهم كراماته”…
إن الحديث هنا عن “الكرامة” أمر ثابت في النصوص الصوفية المغربية كما في الروايات الشفوية، لكن تأويل هذه “الكرامات” وتوظيفها في عمل تفكيكي وتركيبي لتاريخ الصلاح والولاية بالمغرب من شأنه أن يمدنا بعناصر لتحليل أنثربولوجي نعتقد أنه مفيد في وضع العمران الصوفي في سياقه المجالي والاجتماعي؛ وهو ما حاول حسن البودراري القيام به في دراسته لمولاي عبد الله الوزاني، وحاولنا نحن أيضا القيام به مع الولي ابن يفو..
خلال الفترة التي قضاها امحمد الشرقي بمراكش اشتهر بين الناس بعلمه ونباهته ونبل أخلاقه وكرمه، ثم رجع إلى مسقط رأسه فمكث مدة قليلة وانتقل بعدها إلى مكان يسمى إغرم لعلام بالأطلس المتوسط، بقي هناك مدة ثم انتقل سنة 966هـ إلى موقع أبي الجعد الحالي، فحفر بئرا وبنى مسجدا وكان المحل موحشا وقفرا..
والمكان الذي نزل به الشيخ يعرف الآن بالأبار قرب رجال الميعاد، والبئر التي حفرها تسمى اليوم “بئر الجامع“، ثم انتقل الشيخ الشرقي بعد ذلك لمكان يعرف بـ “ربيعة” المعروف الآن برحبة الزرع وبنى مدرسة لتدريس العلم في المكان المعروف اليوم بـ “درب القادريين”، وأصبحت أبي الجعد مركز إشعاع ديني وعلمي، ونقطة تجارية ذات أهمية إستراتيجية، وقد قامت الزاوية الشرقاوية بدور مهم في نشر العلم والصلاح وتخرج منها علماء كبار، مثل الشيخ سيدي محمد الصالح بن محمد المعطي دفين أبي الجعد (تـ 1727م) والشيخ سيدي محمد المعطي بن محمد الصالح صاحب “ذخيرة المحتاج” (تـ 1766م)، وأبو علي الرحالي وسيدي العربي بن السائح العالم الشهير دفين رباط الفتح، ولحسن بن محمد الهداجي المعدني ومحمد بن عبد الكريم العبدوني..
يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..
——————————
1. ابن عسكر، دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، ص: 95-96.
أرسل تعليق