مقاصد الصوم وأسراره.. (1)
قال الله تباركت أسماؤه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة، 182]، وفي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يفقه في الدين“، ولعل من أخص لوازم الفقه في الدين المندوب إليه في الحديث معرفة حِكَم الشريعة وأسرارها، ومحاسنها ومقاصدها؛ لأنه كما قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: “من لم يتفطن لوقوع المقاصد في أوامر الله عز وجل وأحكامه، فلن يكون على بصيرة من أمره في الشرع“؛ ونحوه عند أبي حامد الغزالي إلا أنه قال: “فقد نادى على نفسه بالجهل“، وقال الله تعالى: “اَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا” [النساء،81]، والتدبر المأمور به في الآية هو فهم مراد الله من كلامه وأمره فهما معمّقا، فلو التزم القارئ هذا التدبر كما يرام، لوجد نفسه أقرب ما يكون إلى روح القرآن، وهذا التدبر إنما يحصل لمن تفقه في المقاصد والمعاني والأسرار.
فمن هنا سيظل الحديث عن المقاصد، والبحث في المقاصد، والاشتغال بالمقاصد، يعبِّر دائما عن منزع عميق في الفهم عن الله تعالى، وفهم مراده من شرعه، كما أن العقل الإنساني مدعو دائما وأبدا إلى تعميق فهمه للظواهر الكونية والوقتية والاجتماعية التي تحيط به، ومن ثم كان خطاب المقاصد، وفقه المقاصد من أنسب النظريات وأكثر المنطلقات التي اعتمدها العلماء الأُساة لتجارب الإصلاح الثقافي والسياسي والمجتمعي في تاريخ الأمة المسلمة، وإطارا معرفيا ومنهجيا لمبادرات تجديد الدين وإحيائه وإطلاق فاعليته في الواقع.
ولأجل ذلك، تبارى أساطين الفقه والحكمة الإسلاميَيْن في استظهار مقاصد التشريع، والاهتمام بالكشف عن حكم الشريعة وغاياتها، وعللها وأسرارها، في مصنفات ورسائل كثيرة… لعلّ أقدمها بحسب معرفتي المتواضعة كتاب “علل الشريعة” أو “علل العبودية” أو “إثبات العلل” للإمام أبي عبد الله بن علي المعروف بالترمذي الحكيم، والذي اختلف في سنة وفاته، لكن المقطوع به أنه من رجال (القرن 3هـ) صاحب “الصلاة ومقاصدها” و”الحج وأسراره” و”منازل العباد من العبادة”و”ختم الأولياء” وغيرها.
ومن المصنفين المؤسّسين الرواد في الباب كذلك: أبو منصور الماتُريدي في “مآخذ الشريعة“، وأبو بكر القفال الشاشي في “محاسن الشريعة“، وأبو الحسن العامري في “الإعلام بمناقب الإسلام“، والراغب الأصفهاني في “الذريعة إلى مكارم الشريعة”، وأبو حامد الغزالي في مباحث متفرقة من تصانيفه الغزيرة “كإحياء علوم الدين” و”الأربعين في أصول الدين” و”شفاء الغليل”، وأبو محمد بن أبي جمرة الأندلسي في مباحث رائقة من كتابه “بهجة النفوس“، والشيخ محيي الدين بن عربي في “الفتوحات المكية”، والإمام العز بن عبد السلام في كتابه “مقاصد الصوم” و”مقاصد الصلاة” و”قواعد الأحكام في مصالح الأنام“.
وممّن أحيا هذا الفن في العصر الحديث، وأجاد فيه بحثا وتعليلا واستنباطا: الشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا في مجلة “المنار”، والشيخ ولي الله الدهلوي في “الحجّة البالغة”، ومحمد الطاهر ابن عاشور في “التحرير والتنوير” و”مقاصد الشريعة” و”أصول النظام الإجتماعي“، والشيخ أمين الخولي في كتابه “من هدي القرآن في رمضان“، والأستاذ محمد عبد الله دراز في كتابه “نظرات في الإسلام“، ومنهم الأستاذ عباس محمود العقاد في مقالات كثيرة، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي في مقال له بعنوان “شهرة الثورة”، والأستاذ عبد الله كنون في “التعاشيب“، والأستاذ محمد الأبيض في “قراءة رسالية في الصوم” وغيرهم.
ودونكم هذه النبذة من النظرات التي عنيت بالكشف عن أسرار الصوم، وتجلية مقاصد الشارع من شرعه والتكليف به، وبيان فوائده وآثاره في سلوك الإنسان الفرد والأمة.
وأصدّر برأي الفقهاء؛ فقد ذكر جماعة منهم أن الصوم عبادة خالصة ترجع إلى معنى الإمساك عن الأكل والشرب والشهوة، وأن المقصود من ذلك قهر الطبع، وإنهاك الشهوة، وجهاد النفس.. فجعلوا مدار الحكمة على فلسفة الجوع والحرمان وما ينشأ عنهما. وقال بعضهم: المقصود إرهاف حسّ ذوي اليسَار بوطأة الحرمان ومرارته على النفس، لترتاض بأسلوب عملي على تقدير ما يعانيه المكدودون وذوو الخصاصة والفاقة.
وقيل: إنها عبادة تتسامى بالروح لتتشبه بصفة من صفات الله عز وجل، وهي الصمدية على معنى أن الصمد الذي لا يَطعم.
وأعرج على ذكر مذهب الصوفية، وأكثرهم عند تعرضهم لأسرار الصوم، يفيضون في ذكر فضائل الجوع، وينوهون به بوصفه وسيلة ناجعة لرياضة النفس وتقويمها وتزكيتها، وبناء عليه بينوا أن شهوة البطن هي أصل شرور الحياة كلها، وأصل الآفات منذ الخليقة الأولى حتى الآن؛ فشهوة البطن هي التي أخرجت آدم وحواء من دار القرار إلى دار الافتقار، فهي ينبوع الشهوات، إذ تتبعها شهوة الجنس، ثم تتبعها شهوة الجاه، والمال ثم تتولد عن هذه الشهوة أنواع المحاسدات والرعونات التي تطرأ على العلاقات الاجتماعية كالحقد، والرياء، والمباهاة، والحسد، والتناحر، والتكبر، والعداوة، والبغضاء.
ومن أبرز ما استرعى انتباهي من أنظار المحدثين في فلسفة الصوم: رأي الشيخ أمين الخولي رحمه الله الذي عدَّ الصومَ “لفتا إلى فطرتها لكيلا تطغى، فكأنما الصوم تذكير متصل بضراعة الاحتياج وعلامة البشرية الضارعة إلى الطعام والشراب“.
وقد استظهر على هذا المعنى بتصفحه وتتبعه للسياق القرآني في عدد من الآيات؛ فالقرآن الكريم لا يفتأ يعُدُّ الطعام آية هذه البشرية المحتاجة، على حين يعد عدم الإطعام مظهر الألوهية، وفي سورة الأنعام، يكرر ذلك مرارا فيقول على لسان إبراهيم عليه السلام: “وَالَذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ” [الشعراء، 79]، ويقول في إنعامه على قريش: “الذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وءَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ” [قريش، 4-5]، ويميز ما بين الألوهية والبشرية فيقول: “وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ” [ الاَنعام، 15]، ويسجل بشرية الرسل: “وَما جَعَلْناهُمْ جَسَدا لاَّ يَاكُلُونَ الطَّعام” [الأنبياء، 8].
وخلص أمين الخولي من هذا إلى أن الصوم جاء ليعالج مشكلة حقيقية لم يزل المجتمع الإنساني يصطلي بنارها، ويشقى بنكدها، وهي مشكلة الطغيان الناجمة عن شعور الإنسان الطاغي بنفسه، وغفلته المسرفة عن حقيقتها وقدرها وحدَّها، فكل إنسان مهما كان مركزه ومنصبه معرض في بيئته وعلاقاته لضرب من الطغيان، يجاوز قدره، ويعدو به طوره، فإذا ما رده الصوم باعتباره تنبيها نفسيا ملازما ومتكررا إلى حاجته للطعام، عاد إنسانا سويا، وعلى هذا يكون مغزى الصوم بنظر الخولي القصد إلى كبت غوائل الطغيان، واستئصال سبب بعيد من أسبابه.
ومن الحكمة ما ذكر الأستاذ عبد الله دراز حين لاحظ أن الطابع الاقتراني الجمعي الواحد الذي يميز أداء هذه الفريضة أمارة على أن هذه العبادات لا يراد منها أن تكون مجرد رياضة شخصية روحية تصل بين العبد وربه فحسب، ولا مجرد تجربة إنسانية من التعاطف والتراحم، ولكن يراد منها أن تكون في الوقت نفسه حلقة اتصال بين طبقات الأمة كلها، وحلقة رباط مقدس واندماج معنوي في قلب واحد، وجسد واحد، ولذلك قال رحمه الله: “قد ظهر لنا في مناسبات عدة أن الله تعالى جعل كثيرا من عبادتنا شعارا لوحدتنا، فأراد الله سبحانه في فريضة الصوم أن يتحول هذا الشعار شعورا“.
يتبع في العدد المقبل..
أرسل تعليق