مقاصد التربية الاستهلاكية.. (2)
البعـد الاقتصـادي للاعتـدال فـي الاستهـلاك
إن ترشيد الاستهلاك يستهدف المحافظة على الموارد، وعدم تبديدها وإهدارها، ففي الحديث “من اقتصد أغناه الله عز وجل، ومن بذر أفقره الله عز وجل“[1]. فالنبي صلى الله عليه وسلم قرن التبذير بالفقر؛ لأن المبذر يأكل رأس ماله، في حين جعل الاعتدال في الإنفاق سببا في الغنى؛ لأن المقتصد يدخر بعض إنفاقه، ثم يوظفه في استثمار أو إنتاج، أما المسرف فيستهلك ماله على حساب الادخار والإنتاج، وهذه المعادلة يؤكدها قوله صلى الله عليه وسلم “ما عال من اقتصد“[2]. وكان عمر رضي الله عنه يقول: “يا أيها الناس أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله -عز وجل–؛ فإن إقلالا في رفق خير من إكثار في خرق“[3].
فحسن التدبير والتصرف والاعتدال في الإنفاق يحفظ الثروة، كما أن سوء التدبير يبددها، وإذا كان التقتير يعطل وظيفة المال في استخدامه، وإنفاقه في إشباع الحاجات، وتحقيق النماء، وذلك لعدم تحقق الرصيد الكافي من الأموال أو رؤوس الأموال للإنفاق والتوظيف والتثمير؛ فإن الإسراف إهدار لثروة الأمة في غير منفعة، ذلك أن الإسراف في الموارد الاستهلاكية يحول دون توظيف هذا الجزء الذي أنفق في الإسراف في أمور إنتاجية وزيادة الإنتاج، ومن فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: “لا تأكلوا البيض، يأكل أحدكم البيضة أكلة واحدة، فإن حضنها خرجت منها دجاجة“[4].
فهذا التوجيه العمري يحمل أبعادا اقتصادية، ويبين علاقة الاستهلاك بالإنتاج، فهو لا يقصد النهي عن أكل البيض مطلقا، ولكنه يوجه الأمة إلى وجوب المحافظة على الموارد الإنتاجية، والموازنة بين الاستهلاك والإنتاج، وفي ذلك يقــــول أبو بكر الصديق رضـــي الله عنــه: “إني لأكره الرجل يأكل رزق أيام في يوم واحد“[5].
وقد نهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه سياسة المحافظة على الموارد، ومحاربة الإسراف، فمنع أيام خلافته من أكل اللحم يومين متتالين في الأسبوع –وكان اللحم قليلا لا يكفي جميع الناس بالمدينة– ورأى بثاقب بصره أن يمنع الذبح[6]، وفي هذا المنع محافظة على الأصول الإنتاجية، وحماية الأمة أن تصاب بأزمات اقتصادية خانقة تتسبب في نقص السلع الاستهلاكية بشكل خطير.
ومن آثار الاعتدال في الاستهلاك المحافظة على استقرار مستوى الأسعار بشكل يتناسب ودخل الفئات الضعيفة، ذلك أن الإسراف في الاستهلاك معناه الإقبال على السلع بشكل كبير حتى تنفذ من السوق أو يغلى سعرها،وفي ذلك ضرر بالفقراء؛ لأن كثرة الطلب وقوة الحاجة يؤديان إلى رفع الثمن، يقول ابن تيمية: “عند كثرة الحاجة وقوتها ترتفع القيمة ما لا ترتفع عند قلتها وضعفها“[7].
وهكذا يتبين أن الاعتدال في الاستهلاك له آثار اقتصادية تتمثل في تحويل الفائض في الدخل إلى ادخار يستثمر في زيادة المقدرة الإنتاجية للأمة، وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، فتصبح الأمة قادرة على تمويل احتياجاتها دون اللجوء إلى الدين الخارجي.
يتبع في العدد المقبل..
————————————–
1. أخرجه بن أبي الدنيا في إصلاح المال، ص: 304.
2. رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود، ج: 1، ص: 447.
3. إصلاح المال لأبي بكر بن أبي الدنيا، ص: 203.
4. المرجع نفسه، ص: 320.
5. نقلا عن دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي ليوسف القرضاوي، ص: 260.
6. الملكية في الشريعة الإسلامية، علي الخفيف، ص: 110 دار النهضة العربية، بيروت، 1990.
7. فتاوي ابن تيمية، ج: 29، ص: 524.
أرسل تعليق