مفهوم الحـياء والاســتحــياء
1- في اللغة
الحياء بالمد التؤبة والحشمة[1]. والاستحياء افتعال من الحياء، واشتقاقه من الحياة[2]، خلافا لما أورده ابن فارس في المقاييس؛ إذ جعل مادة (ح ي ي) تدور على أصلين: الأول: خلاف الموت، والآخر: الحياء والاستحياء الذي هو ضد الوقاحة[3].
والاستحياء المبالغة في الحياء، فالسين والتاء فيه للمبالغة، مثل: استجاب واستأخر. ومن معانيه في المعاجم اللغوية: التؤبة والحشمة والانقباض والاستبقاء والامتناع والترك والانخزال والانقماع والانقلاع، وهي معان متقاربة ومتداخلة تدل على معنى الإحياء، كقول الذي حاج إبراهيم في ربه: “أَنَا أُحْـي وَأُمِيتُ” [البقرة، 258]، إشارة منه أنه قتل الأول، فهي إماتة، واستبقى وترك وامتنع عن قتل الآخر، فكان فعله إحياء بهذا المعنى. وسمي الفرج حياء[4]؛ “لأنه يستحيى من كشفه”[5] أي: يمتنع الناس من إظهاره.
وقد يطلق الحياء على القيمة الخلقية المجردة، كما يطلق الاستحياء على فعل المتصف بخلق الحياء المرتبط بواقع عملي معين، فإذا أردنا القيمة الخلقية قلنا “الحياء”، وإذا أردنا وصف حالة من فيه حياء قلنا: استحيا، بإضافة السين والتاء، لذلك يستعمل الاستحياء بالصيغة الفعلية للتعبير عن خلق الحياء.
2- في الاصطلاح العام
قال الزمخشري في قوله تعالى: “وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ” [ الاَحزاب، 53]: “بمعنى لا يمتنع منه”[6] وقيل في قوله تعالى: “وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ” [الاَحزاب، 53] لايتركه[7]. قال الطبري في قوله تعالى: “وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ” [البقرة، 49] “يستبقونهن فلا يقتلونهن”[8] وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ”[أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي]، وفي رواية أخرى: “وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ” أي اتركوهم واستبقوهم أحياء.
ومما قيل في تعريف الحياء والاستحياء:
• “أصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح”[9].
• “الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم”[10].
• “وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيبة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال بظهر أثرها على الوجه، وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يفعل”[11].
• “انقباض النفس من شيء وتركه، حذرا من اللوم فيه”[12]
• “والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم. وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا. واشتقاقه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها”[13].
• “الحياء انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن لمواجهة ما تراه نقصا حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن. وقيل: انقباض النفس من شيء حذرا من الملام وهو نوعان نفساني وهو المخلوق في النفوس كلها كالحياء عن كشف العورة والجماع بين الناس وإيماني وهو أن يمتنع المسلم عن فعل المحرم خوفا من الله”[14].
3- في الاصطلاح القرآني والحديثي
ما ورد من الآيات في القرآن الكريم والحديث الشريف، يشعر بصحة نسبة الحياء والاستحياء إليه سبحانه، للناس فيه مذهبان، فمنهم من يقول بالتأويل، ومنهم من يكل علمه إلى الله سبحانه بعد التنزيه، وهو المختار عندي. فالحياء والاستحياء في القرآن الكريم والحديث الشريف، جاء صفة لكل من الله سبحانه والملائكة والأنبياء والناس.
وما ورد في القرآن الكريم من فعل الاستحياء منسوبا إلى الإنسان، ورد بمعناه اللغوي، وهو استبقاء الشيء حيا، إلا في موضع واحد من سورة القصص، قال تعالى: “فَجَاءتْهُ إِحْدَايهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء” [القصص، 25]. و “على” للاستعلاء المجازي، تفيد التمكن من الوصف، أي تمشي غير مظهرة لزينتها ومفاتنها، فقد ورد في هذا الموضع بمعنى الحياء والاستحياء الذي سأبين معناه لاحقا.
فلا يذكر الاستحياء[15] بمعناه اللغوي في القرآن الكريم إلا مقترنا بمقابله، كالقتل أو ما هو منه كالذبح، ففي قصة فرعون مع بني إسرائيل، كان فرعون يقتل الأبناء ويستحيي النساء، قال تعالى: “يقتلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ” [الاَعراف، 141]؛ أي يزهقون أرواح الأبناء بالذبح ويستبقون[16] النساء أحياء.
وأقول في تعريفه والله الموفق: الحياء من الحياة، خلق حسن يمنع صاحبه عن القبائح مخافة نظر الله والناس، محله الوجه ومنبعه القلب.
والحياء غير الخجل الذي هو الانحصار عن الفعل مطلقا[17].
• تحليل عناصر التعريف
– الحياء من الحياة؛ لأن حياة القلب هي المانعة من القبائح، والحي هو الذي يدفع ما يؤذيه، والميت أو الوقح لا يشعر بما يوجب امتناعه من القبائح، لأن الوقاحة من الصلابة واليبس المخالف لرطوبة الحياة. ولأن أكمل الناس حياة أشدهم حياء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكمال حياته “أَشَدَّ حَيَاءً مِن الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا”[18] كما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
– خلق حسن: لقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ”[19]، وهو خلق محبوب من الله والناس، لا يأتي إلا بخير، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ”[20]. وقد يكون جبليا في الانسان، وهو المشار إليه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج بن عَصَرٍ: “إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.” قُلْتُ: مَا هُمَا؟ قَالَ: “الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ”. قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا؟ قَالَ: “بَلْ قَدِيمًا.” قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا”[21]. وقد يكون كسيبا عن طريق التزكية والترقي في مراتب الإيمان والإحسان، ِعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اسْتَحْيُوا مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ” قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: “لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَحْيَا مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ”[22] فتكون ثمرة الإيمان في خلق الحياء.
– والقبائح: جمع قبيح وهو “ما ينبوا عنه البصر من الأعيان، وما تنبوا عنه النفس من الأعمال والأحوال”[23].
– مخافة نظر الله: أي أن المؤمن إذا قوي فيه خلق الحياء، قويت فيه الحياة، وأصبح يراقب أعماله وتصرفاته الظاهرة، وأحواله القلبية، مستشعرا فيها مراقبة الله عز وجل ونظره، وأنه يطلع على سره وعلانيته. فلم يجعل الله أهون الناظرين إليه، وبهذا المفهوم فإن الحياء مصدره الإيمان، فعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِن الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِن الْإِيمَانِ”[24]، ومصدره كذلك ذكر الله على الدوام؛ “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت”[25]. “ومن استحي من الله عند معصيته، استحى الله من عقوبته يوم يلقاه. ومن لم يستحي من الله تعالى من معصيته، لم يستحي الله من عقوبته”[26].
– مخافة نظر الناس: والإشارة هنا إلى الحياء الطبيعي الجبلي، الذي يغرسه الله في النفوس كلها، كالحياء من كشف العورة، وغير ذلك مما تشمئز منه النفوس والعقول السليمة. وإليه الإشارة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لسعيد بن يزيد الأزدي: “أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك”[27]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.” قُلْتُ: مَا هُمَا؟ قَالَ: “الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ”. قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا؟ قَالَ: “بَلْ قَدِيمًا.” قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا”[28]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا. قَالَ: “لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ مُحَمَّد”[29].
– محله الوجه: أي أن الحيي يظهر على الوجه التأثر بالقبيح، بخلاف صليب الوجه الوقح الذي لا يفرق بين القبيح والحسن. فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا. فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ”[30].
– ومنبعه القلب: للدلالة على أن القلب هو مقر الحياة الحقيقية، فالمستحيي له إرادة تمنعه من الاقتراب من كل قبيح. بخلاف من لا حياء و لا إيمان معه يزجره عن ذلك، وهو المشار إليه في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “…أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ”[31].
——————————————-
1. القاموس/فصل الحاء. باب: الواو و الياء
2. انظر التبيان في تفسير غريب القرآن: ص:70. تفسير البيضاوي 1/255. وأمراض القلوب: 1/13.
3. انظر المقاييس مادة /حيي.
4. تهذيب اللغة/حيي. واللسان/حيا.
5. تفسير الألوسي: 1/254.
6. الكشاف للزمخشري 3/271.
7. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/242.
8. ورد هذا المعنى في تفسير الطبري1/273-174، 9/27، 24/56.
9. مجمع البيان للطبرسي: 1/163.
10. مفاتيح الغيب: 2/144-145. وانظر: الكشاف: 1/263.
11. التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور 1/361.
12. قواعد الفقه ص 270.
13. تفسير البيضاوي 1/254-255.
14. التوقيف على مهمات التعاريف: فصل الياء: ص:302.
15. وردت لفظة الاستحياء بالصيغة الفعلية مرادا بها الاستبقاء أصالة ستة مرات في القرآن الكريم وذلك في سورة البقرة: 48، والأعراف:126-141، وغافر:25، وإبراهيم 6، والقصص4.
16. جاء هذا المعنى في مجمع البيان للطبرسي: 1/227-4/716- 6/467- 7/375.
17. انظر تفسير البيضاوي 1/254.
18. أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد.
19. أخرجه ابن ماجة في الحياء، وأخرجه مالك في الموطأ.
20. أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
21. أخرجه أحمد في مسند الشاميين حديث وفد عبد القيس عن النبي، وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب.
22. أخرجه أبو داود وأحمد.
23. المفردات مادة/ قبح.
24. أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ومالك في الجامع.
25. أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل.
26. الجواب الكافي: ص: 46.
27. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في شعب الإيمان.
28. أخرجه أحمد وأبو داود.
29. أخرجه أحمد وابن ماجة.
30. أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد.
31. أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي.
أرسل تعليق