مفهوم الإنسان في القرآن 1/2
بين مفهومي “البشر” و”الإنسان” في القرآن الكريم
ورد لفظ “الإنسان” في القرآن الكريم، بصيغتي المفرد والجمع إحدى وسبعين مرة، وورد لفظ “بشر” سبعا وثلاثين مرة. فهل يعكس هذا المؤشر الإحصائي تفاوتا بينهما على المستوى الدلالي؟ ذلك ما سنحاول بيانه من خلال اللغة أولا، ثم من خلال التصور القرآني.
فلفظ “البشر” لغة: مشتق من البشرة وهي الجلد الذي يميز الإنسان عن الحيوان، قال الراغب في المفردات: (عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر)، ويرى البعض أن لفظ البشر اعتبر فيه معنى الهيئة الحسنة، ولذلك سمي الإنسان بشرا ليتميز في هيئته عن سائر الحيوان، وباعتبار معنى الظهور سمي الإنسان بشرا لتمييزه عن الجن. ويفهم من هذه المعاني أن لفظ البشر تتمحور دلالته حول المكونات والخصائص المادية للجنس البشري.
وهذه السمة حاضرة في استعمالات القرآن الكريم للفظ البشر؛ إذ يأتي في الغالب لبيان جنس الإنسان في مقابل أجناس مخلوقات أخرى كالملائكة، أو غيرها من المخلوقات المفارقة. وغالبا ما يأتي هذا التقابل على لسان منكري الرسالة ممن تصوروا أن الرسول لا ينبغي أن يكون من جنس البشر، كقوله تعالى على لسان قوم نوح: “فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءابَائِنَا اللاََوَّلِينَ” [سورة المومنون/الآية: 24]، وقوله على لسان قوم صالح: “مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَاتِ بِئايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ” [سورة الشعراء/الآية: 154]. وقوله أيضا: “وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ” [سورة الأنعام/الآية: 92]، والآيات المماثلة لهذه كثيرة.
وفي المقابل يأتي الإقرار من الأنبياء بأنهم مجرد بشر اختارهم الله -عز وجل- لتبليغ الرسالة، تأكيدا منهم على نفي صفة الألوهية عنهم: “قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهمُْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّاتِيَكُم بِسُلْطَانٍ اِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُومِنُونَ” [سورة إبراهيم/الآية:14]، “قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً” [سورة الاِسراء/الآية: 93].
وتأتي المقابلة بين جنس البشر وجنس الملائكة أحيانا في معرض ذكر خلق الله للإنسان، كما في قوله عز وجل: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ” [ سورة الحجر/الآية: 28]. ويذكرنا هذا المقام بالمفاضلة التي أجراها إبليس بينه وبين هذا المخلوق حين أمره الله -عز وجل- بالسجود له فقال: “لم اَكن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ” [ سورة الحجر/الآية: 33]، وكانت حجته أن هذا المخلوق ليس من جنس الملائكة، أو كما جاء في قوله -عز وجل-: “قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إذَ اَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ” [سورة الأعراف/الآية: 11]. فجعل علة الامتناع عن السجود: الاختلاف بين العناصر المكونة لخلق الإنسان والعناصر المكونة لخلق الملائكة أو الجن.
وتأتي سمة الهيئة الظاهرة في لفظ البشر في موارد يكون الغرض من إيراد لفظ البشر فيها التركيز على وجود هيئة الإنسان دون صفاته، كما حدث مع مريم عليها السلام: “فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً” [سورة مريم/الآية: 16]، “قَالَتْ اَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ اَكُ بَغِيّاً” [سورة مريم/الآية: 19].
أما لفظ “الإنسان” فقيل اشتق من الإنس، وهو يقال لمن كثر أنسه، والأنس خلاف النفور، ومن ثم قيل إن الإنسان سمي إنسانا؛ “لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بإنس بعضهم ببعض” كما قال الراغب، ومن هنا جاء التعبير المعروف: الإنسان مدني بالطبع، أو اجتماعي بالطبع.
هذا البعد الاجتماعي للإنسان هو ما يميزه عن البشر، الذي تغلب عليه الجانب المادي الظاهر، وهذا البعد الاجتماعي للإنسان هو ما يكسبه أيضا صفاتا ونعوتا نفسية وخلقية غلب عليها في الاستعمال القرآني الجانب القدحي؛ ويمكن أن نميز فيها بين ما هو طبعي وما هو مكتسب.
أرسل تعليق