مفاهيم ومصطلحات لها ارتباط بالمنهج المقاصدي
5- مفهوم العقل
العقل في اللغة يأتي على معان تدور بين الربط والإحكام والتحصن والحبس، ثم أطلق على الْحِجَا واللُّبّ. قال الرازي: “العقل الْحِجْرُ والنُّهَى. وعَقَلَ من باب ضَرَب، والمعقل الملجأ”[1]. و”عقلتَ البعير عقلا (…) أن تثني وظيفه مع ذراعه، فتشدهما في وسط الذراع بحبل (…) وعقلت القتيل عقلا، أديت ديته، وعقلت الشيء تدبرته، وعقل الدواءُ البطنَ أمسكه (…) واعتقلت الرجل حبسته (…)”[2].
وقيل في تعريفه إنه “الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لفهم الخطاب”[3]. فهو إذن “القوة المدركة التي تُعقل بها الحقائق، وتتميز بها الأشياء، أو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها، وكمالها ونقصها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، وكلها معان متقاربة. وأجمعُها أنه “نور إلهي تُدرِك به النفس العلوم الضرورية والنظرية”[4]، كما قال الشريف الجرجاني رحمه الله تعالى: “وقيل نور في القلب يعرف الحق والباطل، والصحيح أنه جوهر مجرد يدرك الغائبات بالوسائط، والمحسوسات بالمشاهدة”[5].
وآيات القرآن التي تحض على العقل والتعقل تبلغ 49 آية، إضافة إلى أكثر من 200 آية تتحدث عن مفاهيم لها ارتباطات قويّة وأساسية بمفهوم العقل، كالفكر والتفكر، والفقه والتفقه، والتدبر والحكمة… وكلّها مصطلحات ومفاهيم توصلنا إلى المنهج المقاصدي الرصين.
فالعقل إذن مرتكز الدعوة في النفس الإنسانية، به يعرف صالح الأشياء ويميزها، وبه يفهم الخطاب الشرعي، وينظر في تنزيله بكيفية منسجمة مع روحه وأهدافه، ولا سبيل إلى معرفة كل ذلك إلا بالعقل، فقد “خلق الله تعالى العقل، وجعل من وظائفه أن يَفهم عنه، ويعقل دينه وشرعه، فلا يجوز في حقه أن يرد شيئا من الوحي كتابا وسنة، بحجة أنه يخالف قضية العقل، بل الشريعة كلها بأخبارها وأحكامها، ليس فيها ما يعلم بطلانه بالعقل، بل العقل يشهد بصحتها على الإجمال والتفصيل:
أما الإجمال: فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة؛
وأما التفصيل: فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل، بل كل ما أدركه العقل من مسائلها، فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا، وما قصر العقل عن دَرْكِهِ من مسائلها، فهذا لِعِظَمِ الشريعة وتفوقها. ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل، التي عجز العقل عن دَرْكِهَا، فالشريعة قد تأتي بما يُحَيِّرُ العقول، لا بما تُحِيلُهُ العقول[6].
لهذا نصّ عدد من العلماء على أهمية ربط منظور العقل بفهم النصوص، فنجد من المتقدمين ابن حبيب الأندلسي (تـ238هـ) الذي أبان عن أهمية النظر والعقل حين نقل عن الإمام مالك في الواضحة قوله: “ولا أرى خصال القضاء تجمع اليوم في أحد؛ فإن اجتمع منها خصلتان العلم والورع وُلِّيَ”. وقال ابن حبيب معلقا: “فإن لم يكن معه علم وكان معه عقل وورع يُكتفى بالعقل، فبه يسأل وبه خصال الخير كلها، وبالورع يقف؛ فإن طلب العلم وجده، وإن طلب العقل إذا لم يكن فيه لم يجده”[7]. فالعقل هو ثمرة الفكر ونتيجته، وبه يتحصل ما هو مجهول، ويلاحظ ما هو معقول بسرعة بديهة وحسن تدبر وتأمل.
فحاجة المقاصد إلى استعمال العقل أمر ضروري وبديهي؛ لأنه السبيل إلى التعرف على مناطات الأحكام ومواقع العلل، كما أنه ضرورته تتأسس من بنائه على مفهوم النظر والفكر وعدم اقتصاره على مفهوم الفقه من حيث احتراز العلم بالأحكام الشرعية عن الوقوع في جهالة قراءة النصوص الجزئية خارج إطارها الشرعي.
والحمد لله رب العالمين
———————————-
1. مختار الصحاح، الرازي، تـ: محمود حاطر، مكتبة لبنان، بيروت، مادة (ع ق ل)، 1415هـ/1955م.
2. المصباح المنير، الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت، د.ت، مادة: (ع ق ل).
3. المصباح المنير، الفيومي، (م.س)، مادة: (ع ق ل).
4. الشرع بين العقل والنقل، محمد أبو سليمان، مقال: محمد أبو سلمان، رسالة المعاهد، ع 8، جمادى الآخرة 1420 هـ / شتنبر 1999م، ص: 6-7.
5. التعريفات، الجرجاني، ضبط وفهرسة محمد بن عبد الكريم القاضي، ط: 1، دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب العربي، بيروت، 1411هـ/1991م، مادة (ع ق ل).
6. قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد. عثمان علي حسن. ص 65-66. سلسلة رسائل ودراسات في منهج أهل السنة. دار الوطن للنشر. الرياض. 1413هـ.
7. البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة، ابن رشد. تحقيق: محمد حجي، 7/590، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1406-1408/1986-1988م، والمقدمات الممهدات، ابن رشد، 2/259. (م.س).
أرسل تعليق