مدخل لدراسة المذهب المالكي.. (35)
- ذ. مصطفى بوزغيبة
- باحث بمركز الإمام الجنيد
[أمثلة سد الذرائع من فقه الإمام مالك]
الناظر إلى فقه الإمام مالك يجد كثرة الأمثلة والشواهد على اعتماد الإمام مالك على أصل سد الذرائع، ومن أمثلة ذلك:
المثال الأول: كراهة صلاة الجماعة الثانية بعد صلاة الجماعة الأولى في المسجد الذي فيه إمام الراتب، فقد اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة بعد صلاة الإمام الراتب، فذهب مالك إلى كراهته، جاء في “المدونة”[1]:
قلتُ: فلو كان رجل هو إمام مسجد قوم، ومؤذنهم أذن، وأقام، فلم يأته أحد، فصلى وحده، ثم أتى أهل ذلك المسجد الذين كانوا يصلون فيه.
قال: “فليصلوا (أفذاذا) ولا يجمعون؛ لأن إمامهم قد أذن، وصلى.. قال وهو قول مالك الخ”.
وقد استدلوا بمجموعة من الأدلة منها قوله تعالى: “الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمومِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ اَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ” [التوبة، 108].
قال ابن العربي -رحمه الله- في أحكام القرآن: “يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرقوا شملهم في الطاعة، وينفردوا عنهم للكفر والمعصية، وهذا يدلك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة: تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الزِّمام والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة؛ وتَصْفُو القلوب من وَضَر الأحقاد والحَسَادة , ولهذا المعنى تفطَّن مالك -رضي الله عنه- حين قال: “إنه لا تُصلَّى جماعتان في مسجد واحد، ولا بإمامين، ولا بإمام واحد، خلافا لسائر العلماء، وقد روي عن الشافعي المنع، حيث كان ذلك تشتيتا للكلمة، وإبطالا لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من أراد الانفراد عن الجماعة كان لـه عذر، فيقيم جماعته، ويقدم إمامته؛ فيقع الخلاف، ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم وهكذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة، وأعلم بمقاطع الشريعة“[2].
وارتضى ذلك وأقره الإمام القرطبي كما في تفسيره “أحكام القرآن“[3].
المثال الثاني: وهو في مجال المعاملات، ومن المعلوم أن الإمام مالك منع العديد من البيوع سدا لذريعة الربا منها بعض صور بيع العينة، لوجود “التحيُّل في كلٍّ، حيث يدفع قليلاً، ويأخذ كثيرًا“[4].
وصورة هذه المعاملة أن يبيع الرجلُ الرجلَ السلعةَ بثمن معلوم إلى أجلٍ، ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن، أو يشتريها بحَضْرَتِه مِنْ أجنبي، ثم يبيعها من طالب العينة بثَمَن أكثر مما اشتراها به إلى أجل، ثم يبيعها هذا المشتري الأخير منَ البائع الأول نقدًا بأقل مما اشتراها”[5].
وقد وصف الإمام مالك أصحاب هذه المعاملة بأنهم أهل العينة؛ حيث قال: “أصحاب العينة عند الناس قد عرفوهم، يأتي الرجلُ إلى أحدهم فيقول له: أسلفني مالاً؟ فيقول: ما أفعل، ولكن أشتري لك سلعة منَ السوق فأبيعها منك بكذا وكذا، ثم أبتاعها منك بكذا وكذا، أو يشتري من الرجل سلعة ثم يبيعها إياه بأكثر مما ابتاعها منه[6].
وعلة المنع هو سد ذريعة الربا، يقول ابن رشد في: “المقدمات“، “ومن ذلك: البيوع التي ظاهرها الصحة، ويتوصل بها إلى استباحه الربا“.
يتبع في العدد المقبل..
——————————————————
1. “المدونة” 1/89.
2. “أحكام القرآن“، 2/1013.
3. نفسه، 8/257.
4. “شرح الخرشي” 5/105، “حاشية الدسوقي” 3/88، “بلغة السالك” 3/128.
5. “مواهب الجليل” 4/404، وينظر: “شرح الخرشي” 5/105، “منح الجليل” 2/604.
6. ” المدونة” 3/135.
أرسل تعليق