مدخل لدراسة المذهب المالكي.. (28)
- ذ. مصطفى بوزغيبة
- باحث بمركز الإمام الجنيد
استحسان سنده سد الذريعة
وهو أن يوجد أمر يُخشى الوقوع فيه، ويقتضي استثناءه من الأصل أو القاعدة الكلية، ومثال ذلك: كراهة وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة المكتوبة، ففي البيان والتحصيل أن أشهب سأل مالكا: “عن وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة المكتوبة أو النافلة، قال: لا أرى بذلك بأسا في النافلة والمكتوبة“[1].
رغم أن في المسألة ثلاثة أقوال للإمام مالك، مرجعها في الأساس ليس في صحة نسبة الأقوال إلى الإمام مالك كما يتوهم البعض، ولكن ترجع في نظرنا إلى اختلاف في سياق الأقوال، حسب ما تقتضيه المصالح والمفاسد، وهذا مبحث يحتاج منا إلى مزيد من التوضيح سيأتي في بابه، نرجع إلى أقوال مالك في هذه المسألة.
أحدها: أن ذلك جائز كما رأينا في سماع أشهب عن مالك؛
الثاني: أن ذلك مكروه يستحب تركه في الفريضة والنافلة إلا إذا طال القيام في النافلة فيجوز، وهو قول مالك في المدونة[2]؛
الثالث: أن ذلك مستحب فعله في الفريضة والنافلة مكروه تركه فيهما، وهو قول مالك في رواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة..
وهذا هو القول الراجح، باعتبار الدليل في المسألة، وهذا القول أظهره ابن رشد، لكن توجيه قول مالك بكراهة القبض في الصلاة، يرجع بالأساس إلى الاستحسان الذي سنده الذريعة وذلك مخافة أن يعتقد الناس وجوب ذلك في الصلاة.
استحسان سنده الضرورة
وهو أن توجد ضرورة تحتم استثناء المسألة من أصل عام أو قاعدة كلية، وذلك بغية منع غلو القياس ومثال ذلك: ما ورد عن ابن القاسم أنه سأل مالكا “عن معاصر الزيت، زيت الجلجان والفجل يأتي هذا بأدراب وهذا بأخرى حتى يجتمعوا فيها فيعصرون جميعا. قال: إنما أكره هذا لأن بعضه يخرج أكثر من بعض، فإذا احتاج الناس إلى ذلك فأرجوا أن يكون خفيفا، لأن الناس لابد لهم مما يصلحهم، والشيء الذي لا يجدون عنه غنى ولابد فأرجو أن يكون لهم في ذلك سعة إن شاء الله ولا أرى به بأسا، والزيتون مثل ذلك، قال سحنون: لا خير فيه“[3].
فالإمام مالك عدل عن القياس في هذه المسألة إلى الاستحسان للضرورة رعاية لمصالح الناس، وهو ما أشار إليه مالك بقوله “لأن الناس لابد لهم مما يصلحهم“، أما قول سحنون فهو أبعد عن المقصد الذي قصده مالك، وبالتالي نعتبره رأيا لا نعتمد عليه فيما يصلح للناس، وهذا ما أكده ابن رشد بقوله: “قول سحنون هو القياس، وقول مالك استحسان دفعه الضرورة إلى ذلك، إذ لا يتأتى عصر اليسير من الجلجان والفجل على حدته“[4].
استحسان سنده اعتبار القرينة
وهو أن يتم الاعتماد على القرينة في مقابلة القياس الذي لا يكون معولا عليه في مثل هذه المسائل الجزئية.
مثال ذلك: أن مالكا فرق بين الرهن الذي يُغاب عليه فيضمنه المرتهن إذا هلك عنده، وبين الرهن الذي لا يغاب عليه فلا يضمنه عند التلف.
وقد قال ابن رشد الحفيد موضحا سبب تفريق مالك لهذين الصنفين: “وأما تفريق مالك بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه فهو استحسان، ومعنى ذلك أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه”[5]، وذلك باعتبار القرينة.
استحسان سنده القياس الخفي
وهو أن يكون في المسألة قياسان أحدهما ظاهر والآخر خفي يقتضي المصلحة فعندها نقدم القياس الخفي، ومثال ذلك ما سمعه ابن القاسم من مالك أنه: “إذا جُرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها أخذ عقالها وكانت مالا للورثة، قال ابن القاسم: ثم قال بعد ذلك (أي مالك): أراه لها، لأن أم الولد ليست كغيرها لها حرمة، وليست بمنزلة العبد، وكذلك إذا لم يقبضه سيدها حتى مات، قال ابن القاسم: وقد رأيت مالكا كأنه يعجبه هذا القول ويستحسنه، قال ابن القاسم: وأنا أستحسن قول مالك الذي رجع إليه“[6]. فقول مالك الأول هو القياس الظاهر أما القول الثاني فهو الاستحسان الذي سنده القياس الخفي.
استحسان سنده مراعاة الخلاف
ومثال ذلك ما جاء في العتبية أن مالكا سأل عن الصبي المراهق أيؤم الناس في الصلوات؟ فأجاب: “أما الصلوات المكتوبات التي هي الصلوات فلا، وأما النوافل فالصبيان يؤمون الناس فيها. قيل: أفيقدمون في رمضان؟ فقال: نعم لا بأس بذلك“[7]. فالقياس عند مالك ولازم مذهبه عدم جواز إمامة الصبي للناس في المكتوبات وبالأحرى في النوافل وقيام رمضان، ولكن مراعاة لخلاف من يقول بجواز إمامة الصبي للناس في المكتوبات استحسن مالك إمامتهم في النوافل وقيام رمضان..
يتبع في العدد المقبل..
—————————-
1. البيان الوتحصيل، 1/394.
2. المدونة، 1/76.
3. البيان والتحصيل، 12/16.
4. المصدر السابق نفسه.
5. بداية المجتهد، 2/277.
6. البيان والتحصيل، 16/91.
7. البيان والتحصيل، 1/396.
أرسل تعليق