محمد بن القاسم السلوي
قد يكتنف بعض الشخصيات العلمية غموض من حيث النشأةُ والحياة الاجتماعية وظروف العيش، لكن الأثر الفكري يحجب كل ذلك بحيث يصبح الإنتاج العلمي دالا على صاحبه ولو غابت عنا المعطيات حول ولادته ونشأته لسكوت المصادر عنها أول إهمالها..
من هذه الشخصيات غير مكتملة الترجمة العالم الفقيه الصوفي محمد بن القاسم بن داود السلوي..
يقول العلامة محمد المنوني: “لا تعرف له ترجمة كاملة، وهناك لقطات مقتضبة وردت ضمن موضوع: “ملاحم ودواوين في السيرة والمديح النبوي” (مجلة دعوة الحق السنة 9، العدد 9-10 (ص: 105-106)). وقد أشار بن القاضي في “درة الحجال في أسماء الرجال” إلى صاحبنا بن القاسم السلوي (ترجمة رقم: 1326)، وقال أنه توفي سنة 800هـ، لكن دراسات معاصرة اعتمدت على تآليف الرجل لتخلص أنه كان حيا سنة 812هـ بما يعني أن التاريخ الذي أورده ابن القاضي غير دقيق..
وذكر سيدي محمد بن عبد الهادي المنوني في مقاله “مؤلفات مغربية في الصلاة والتسليم على خير البرية صلى الله عليه وسلم” (نشر بمجلة دعوة الحق) أن لصاحبنا محمد بن القاسم بن داود السلوي كتاب “المقاصد المرشدة والمآخذ المسعدة”، ويقول أنه كان بقيد الحياة أواخر عام 812هـ / 1410م؛ ونعرف كذلك أن محمد ابن القاسم بن داود السلوي قد شطر بردة البوصيري…
ولابن القاسم بن داود السلوي “نوادر النظام في شرف سيد الأنام” وهو ديوان شعر قامت بتحقيقه خديجة حسايني بإشراف الدكتور الفاضل عباس الجراري في إطار رسالة الدراسات العليا بجامعة محمد الخامس بالرباط، وحسب علمي أن الدراسة لم تنشر بعد، والديوان مجموعة أمداح نبوية يقول في أولها:
نور الوجود وسر معنى الجود لاحـــا لأجل محمد المحمــود
ومن مؤلفات الفقيه محمد بن القاسم السلوي في مجال التصوف كتاب “ملابس الأنوار ومظاهر الأسرار”، وقد قام الأستاذ الفاضل محمد بن عبد العزيز الدباغ بدراسة جزء من المخطوط، ونشرها ضمن كتابه القيم “من أعلام الفكر والأدب في العصر المريني” (مطبعة النجاح الجديدة، 1992: ص 261- 268).
وكتاب “ملابس الأنوار ومظاهر الأسرار”-يقول محمد بن عبد العزيز الدباغ في كتابه (ص: 262): “عبارة عن كتاب اعتمد فيه المؤلف على الآيات القرآنية، وجعلها ضمن أدعية متنوعة المجالات معبرة أصدق تعبير عن إحساس المؤلف إزاء الأمة المحمدية التي كان يرجو من أعماقه أن تكون خير الأمم وأقواها، وأضفى على هذه الابتهالات هالة من التصوف البريء الخالي من التعقيد والغموض والإبهام، ذلك أن بعض رجال التصوف كانوا يتجنبون المبالغات ويتخوفون من إعلان ابتهالات تتنافى في جوهرها مع أصول الدين وقواعد الاعتدال أو التي لا تستمد عناصر استمدادها من آداب القرآن المجيد، فحرصوا على أن يضمنوها كل ما يتلاءم مع المبادئ السامية، فهو مثلا يقول أثناء إشارته إلى العدل والقسط: “اللهم يا أكرم مولى أمر على الحقيقة بالقسط، اجعل أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من القائمين بالقسط الذي أمرت به سبحانك من إله كريم واجعلهم اللهم من الناظرين لوجهك يوم القيامة ومن الواردين موردا مزاجه من تسنيم..”.
ويقول حينما تعرض للفواحش والمنكرات التي قد تعتري المجتمع المسلم وتحد من تطلعاته الدينية والدنيوية: “اللهم يا من حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، اعصم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوقوع في الفواحش الظاهرة والباطنة بفضلك، وادفع اللهم عنهم الوقوع في البغي بغير الحق، سبحانك بطولك..”.
ويعتمد المؤلف على ربط دعواته الإصلاحية بالآيات القرآنية، وقد رتب ذلك في أربعة أجزاء يقول الأستاذ الدباغ أنه لم يبق منها في خزانة جامع القرويين إلا الجزء الثاني الذي يحمل في دفتر التسجيل رقم 700، وهو مكتوب بخط جميل جدا إلا أنه متلاشي الأطراف؛ ويحتوي على أدعية استمدها الفقيه بن القاسم السلوي من اثني عشر سورة هي: الأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحِجر، والنحل، والإسراء الكهف..
ولإبراز مقاصد الفقيه محمد بن القاسم السلوي في كتابه النفيس هذا لابد من الاقتراب من عدته المنهجية التي اختارها لتمرير خطابه الإصلاحي ورسالته الحضارية.. يفيدنا الأستاذ محمد الدباغ في كتابه سابق الذكر (ص: 263) أن صاحب “ملابس الأنوار ومظاهر الأسرار” يأتي بالآية في الهامش ثم يأتي بالدعاء المناسب لها مسجوعا، ويختار في محتوى دعواته أحسن المتمنيات التي يتيقن أن وجودها في الأمة الإسلامية سيكون فيه ما يجدي ويفيد، فكأنه كان في أدعيته هاته يضع تصميما أخلاقيا قرآنيا يرشد به الناس، ويبين لهم فيه ما يجب أن يتحلوا به وما يجب عليهم أن ينبذوه، ويجعل ذلك التصميم أساسا لبناء الكيان الاجتماعي، ويتعمد فيه التكرار لتصير تلك المعاني ممتزجة بقلب الإنسان المؤمن، مرددة معادة لا يفتر عنها لسانه ولا ينساها جنانه..”.
إن كتاب “ملابس الأنوار ومظاهر الأسرار” لمحمد بن القاسم السلوي “تفيض فيه ابتهالات المؤلف فيضا يعم جميع مرافق المسلمين، وتتعطر بنفحاته جميع الأرجاء، وفي يسجل جميع الآمال التي يرجوها لأمته في كل زمان ومكان، فهو مثلا عند اقتباسه من سورة الأعراف كان يدعو الله تعالى أن يلهم الأمة المحمدية جميع الخيرات والحسنات، وأن يجنبها جميع الشرور والسيآت، فقد طلب لها الرزق الحلال والخلق الطيب والعدل في المعاملة وعدم الإسراف والعلم بتفصيل الآيات، والعصمة من البغي والعدوان والنجاة من كل شر، وتيسير العلم الموصل إلى الله وتدمير كل سيئات الأعمال والتوفيق للتقوى ولتأدية حقوق الله والسلامة من بوائق الذنوب ومن عذاب جهنم..”.
وفي اقتباسه من سورة الأنفال دعا الله أن يهدي أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل، وأن يعصم المسلمين من الوقوع في الشقاق وأن يسلك بهم مسالك رضاه، وأن يدفع عنهم خوف غيره وأن يجعلهم من الآمنين يوم المعاد، وأن يدفعهم إلى تغيير ما بأنفسهم وأن يجنبهم خداع المنافقين وأن يخفف عنهم عبء كل المشاق..
ولما وصل المؤلف إلى سورة التوبة دعا الله عز وجل أن يرحم عجز أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكون للمسلمين في الدنيا وليا وفي الآخرة رحيما، وأن يجنبهم الشرك، وأن يغفر خطاياهم (…) وأن يغنيهم من فضله، وأن يتم نور إيمانهم وأن يوفقهم في الإطلاع على العلوم الدينية، وأن يجعل كلمتهم قائمة عالية (…) وأن يهديهم للخير، وأن يرشدهم إلى المعرفة، وأن يفقههم في الدين وأن يجعلهم من المتوكلين..
وفي قراءته لسورة يونس دعا الفقيه السلوي الله عز وجل أن يلهم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القدرة على إدراك سر عظمة الله في خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن يوفقهم إلى إدراك أسرار ربوبيته، وأن يجعل بدأهم سعيدا، ومعادهم حميدا (…) وأن يعصمهم من الظلم والشرك، وأن يجعلهم من السعداء في الغيب والشهادة، وأن يفسح لهم مجال فهم آياته والتأمل في أسرار دلالاته (…) وأن يجعل مرجعهم كريما، ومآلهم سليما، وأن يصلح أحوالهم الجلية والخفية..
فأنت ترى أيها القارئ الفاضل مقاصد هذا الرجل المربي الصادق الذي يدعو هنا دعاء جامعا بين البيان والعرفان دون إهمال الأسباب الموجبة للرقي والسمو، فهو يدعو للأمة الإسلامية بتجنب الشرك والظلم -الذي عائده الخراب على العمران والعباد- وأن يهديها الله للخير، هذه الكلمة الجامعة لمكارم الأخلاق وفق فلسفة الإسلام الأخلاقية، ويتمنى الفقيه السلوي الفاضل أن يصلح الله الأحوال -وما أدراك ما إصلاح الأحوال- ويدعو الله تعالى أن يفسح لنا “مجال فهم آياته والتأمل في أسرار دلالاته”.. وهنا نستشف عمق الرؤية الإصلاحية عند الرجل، فهو يعبر عن اتجاه فكري وأخلاقي ساد الحركة العلمية على مدى عصور بما شكل تجسيدا لروح علاقة المسلم بالقرآن والكون بشكل جدلي، ومقتضاه كما يقول محمد الدباغ في كتابه (ص: 264) أن النشاط الفكري دال على عناية المثقفين بشؤون دينهم ومبرزا لآمالهم وأمانيهم، فلم يكن المسلم أنانيا في رغباته، ولا مستأثرا بالمنافع العامة بل كان يعبر دائما عن خوالجه تعبيرا شموليا يذيعه أمام الملأ..”.
وفي تأمل العالم السلوي لسورة هود يدعو الله تعالى أن يعلم أمة محمد أسرار قدرته، وأن يعصم المسلمين من الوقوع في حبائل مظالم العباد، وأن يفقههم في الدين وفي أخبار الأولين (…) وأن يرشدهم للعدل فلا يظلمون، وأن يهديهم للعبادة الدائمة، وأن ينزع من قلوبهم حجب الغفلة، وأن يحقق لهم استيعاب قوله تعالى: “وما ربك بغافل عما يعملون” [هود، 123]..
ولما وقف محمد بن القاسم السلوي على أسرار سورة يوسف دعا الله أن يجعل لأمة محمد من قصصه موعظة وحكمة، وأن يكون لهم عونا عما يصفون من جميل أسرار أمره، وأن يستجيب لهم إذا دعوه، وأن يصرف عنهم كل المكائد، وأن يخولهم من موانح نعمه نعما شاملة، وأن يعلمهم علما يحقق لهم معرفة وحدانيته، وأن يلطف بهم في جريان أحكامه (…) ويجعلهم من الصالحين، وأن يحول بينهم وبين ارتكاب الجرائم وييسر لهم كل موانح الإنعام..”، ولما وصل إلى سورة الرعد دعا الله أن يرفع همة أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلهم خاضعين لكبريائه (…) وأن يجعلهم مسبحين كما يسبح الرعد بحمده، وأن يمنحهم علما يلهمهم توحيده، وأن يفقههم في كتاب الله، وأن يجعل اكتسابهم ذكرا وشكرا وحسن عبادة..
وعندما تأمل الفقيه الفاضل في سورة إبراهيم دعا الله تعالى أن يجعل أفراد الأمة من الحامدين له بلسان إلهامه، وأن يفقههم في علم لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يغنيهم عمن سواه، وأن يفتح بصائرهم، وأن يلبسهم جلابيب نعمه الضافية، وأن يعصمهم من مضار الانتقام.. ثم دعا، وهو يتأمل في آيات سورة الحجر أن يكرم أمة محمد خير تكريم، وأن يفيض عليها من نعيم خزائنه، وأن يحيي أرواح المسلمين بتنسم نواسم رضوانه، وأن يكفيهم شر المستهزئين وأن يعلمهم من علم السبع المثاني والقرآن العظيم..
ولما وصل إلى سورة النمل التقط منها إشارات جعلته يدعو الله تعالى أن يجنب أمة محمد كل أسباب الخصام، وأن يلهم المسلمين الشكر والتدبر، وأن يحفظهم في عقولهم، وأن يمكنهم من الفقه بمضمون كتاب الله (…)، وأن يكونوا من المحسنين..
وفي سورة الإسراء دعا محمد بن القاسم بن داود السلوي أن يجعل الأمة مفتقرة إلى رحمة الله افتقارا يخولها بروره العام، وأن يمنحهم حلما يخولهم هداه، وأن يجعلهم بفضله غارقين في بحار منته وإنعامه..
وينتهي الجزء الثاني من كتاب “ملابس الأنوار ومظاهر الأسرار” لمحمد بن القاسم السلوي بالحديث عن سورة الكهف، وقد استنبط الفقيه السلوي منها إشارات عرفانية جعلته يدعو الله عز وجل أن يجعل الأمة من الشاكرين عند الاقتضاء، ومن الصابرين عند الابتلاء، وألا يضيع أجرهم، وأن يعلمهم علوم كلماته التي لا تحصى بحد، وأن يفيض عليهم من بركاته التي لا تستقصى بِعَدٍّ..
ويستخلص الأستاذ الدباغ في خاتمة دراسته لكتاب “ملابس الأنوار ومظاهر الأسرار” للفقيه العارف محمد بن القاسم بن داود السلوي أن الجزء الذي اطلع عليه من الكتاب -المحفوظ في خزانة جامع القرويين المبارك- وما يحتوي عليه من أدعية “يعتبر إيحاء عمليا يخطط للمسلم ما يجب أن يقوم به، فليس فيه تواكلية ولا استسلام، وأن عناصره المختلفة لتعتبر عناصر تكوينية لمجتمع سليم، ففيه دعوة إلى العلم والعمل وأمر بالعدالة والإحسان، وحرص على الجمع بين المعرفة الدينية والدنيوية، وبيان لقيمة اللغة العربية التي تعين معرفتها على فهم آيات الله واستيعاب أحكامها..
والجدير بالملاحظة أن الفقيه محمد بن القاسم بن داود السلوي لم ينهج في تلقين “هذه التعاليم” نهجا منطقيا برهانيا، وإنما اعتمد أساسا على الجانب الوجداني، لكن ربطه بين معطيات العلم والتربية والسلوك، وحديثه عن تماسك الجماعة، ورقيها وأخذها بالأسباب يجعل كتابه هذا بمثابة بيان فكري وأخلاقي لا يخفى على ذوي النباهة أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية.. فهو يدعو إلى الالتحام الاجتماعي والتواصل التلقائي بما يحقق الوحدة ويطبع الوجود الإنساني والاجتماع البشري بالمودة والإخاء ومكارم الأخلاق… ثم إن الرجل كان على وعي تام بأن العلاقة بين إنسان الأمة والقرآن الحكيم مسألة وجودية، وأن التبصر بآيات الذكر الحكيم يتم بمنطق جدلي يكون الاستيعاب فيه محصلة علاقة دائمة بين الأمة والقرآن بمنطق كوني؛ من هنا جاءت أدعيته ملامسة لمجمل الحقائق والقضايا الإنسانية والاجتماعية، وهو ما يضفي على الأدعية طابعا كونيا وينزهها عما علق بها من تسطيح أحالها إلى مجرد عبارات عاطفية مألوفة على ألسنة الناس، وأعتقد أن رؤية صاحبنا السلوي لمفهوم الدعاء تستحق التوقف والتأمل والاقتداء..
وبعد، فتعريفنا بهذا العالم السلوي وكتابه “ملابس الأنوار ومظاهر الأسرار” يندرج ضمن الإسهام في التعريف بالحركة الفكرية بالمغرب إبان العصر المريني، وهو عصر ازدهر فيه التأليف الصوفي في إبعاده التربوية والفلسفية، وهو أيضا عصر تلاقح فيه العنصر المغربي بالعنصر الأندلسي بشكل وثيق، زاده التهديد الخارجي تماسكا وتبلورا، وقد كان ذلك مبعثا لنهضة شاملة في المغرب أدت إلى تنمية مراكز التلقين في كثير من المدن المغربية، ومدينة سلا، التي كانت العاصمة الثانية للمرينيين بعد فاس، عرفت انبثاق حركة صوفية اجتماعية على عهد بني مرين، من روادها ابن عاشر الأندلسي وابن عباد الرندي وصاحبنا محمد بن القاسم بن داود السلوي…
لا نعرف متى توفي الفقيه السلوي بالضبط، لكن الراجح أن ذلك تم بعد سنة 812هـ؛ لأن المصادر -النادرة على كل حال- والمعتمدة على مؤلفاته تقول أنه كان حيا خلال هذه السنة، وهذا عكس ما ذهب إليه ابن القاضي في “درة الحجال” الذي جعل سنة وفاته 800هـ..
رحم الله محمد بن القاسم بن داود السلوي وجازاه عن المغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
أرسل تعليق