محمد بن الطيب العلمي.. (1)
يعد عصر المولى إسماعيل العلوي عصر ازدهار علمي وأدبي رافق الاستقرار السياسي العام الذي توطدت دعائمه بعد سياسة تدبير التراب وتحرير الثغور.. فليس غريبا أن يعرف هذا العصر بروز الحسن اليوسي، وعلي العكاري، وعبد الله الغربي، وعبد القادر الفاسي، وغيرهم من رواد الحركة العلمية ببلدنا المبارك..
وفي ظل هذا العصر العلمي الزاهر برز نجم أديب، وعالم كبير اسمه محمد بن الطيب العلمي. وهو يعد هو واليوسي، وابن زاكور، الأمثلة الحية للأديب المغربي.
ويعتبر العلمي امتدادا للمدرسة الأدبية التي أسسها العلامة اليوسي، وسار على نهجها الأديب الكبير ابن زاكور.
لا نعرف بالتحقيق تاريخ ولادة محمد بن الطيب العلمي، لكن من المؤكد أنه ولد بفاس، في سنة قريبة من (عام 1100/1688)، اعتمادا على شهادة العلمي نفسه في كتابه الأنيس: “فعندما رثى الشيخ المولى محمد بن عبد الله الشريف الوزاني كان نظمى لها في زمن الصغر، مع ما انضم إلى ذلك من سرعة الإرتجل فهي جديرة بأن ينظر إليها بعين الرضى، وتقابل بالتجاوز” وإذا عرفنا أن وفاة ابن الشريف كانت سنة 1120/ 1708؛ فإن عمر العلمي وقتذاك لم يكن يتجاوز العشرين على أقصى تقدير.
بعد قراءة القرآن على يد والده دخل محمد بن الطيب العلمي جامع القرويين ليتعلم الفقه، واللغة والمنطق والطب والموسيقى، بالإضافة إلى الأدب والتاريخ..
إن اليتم المبكر وحب الرحلة والتعلق بالأدب والتاريخ والموسيقى كلها عوامل جعلت من هذا الفاضل شابا غريب الطبع يميل إلى العزلة وحب الطبيعة، وقد قام برحلات داخل المغرب، حيث زار بالخصوص مدن مكناس وتطوان وزرهون، وفي عام 1709 زار جبل العلم ومقام العارف ابن مشيش، ومنه توجه إلى سبته حيث حضر معارك بين المغاربة والإسبانيين، خارج أسوار المدينة المحاصرة.
بعد رحلات داخلية مليئة بالعلم والاكتشاف تاقت نفس صاحبنا العلمي إلى زيارة الحرمين لأداء فريضة الحج، فأدركته المنية في الطريق بمدينة القاهرة عام (1134 = 1721 أو 1135) حسب رواية أخرى قبل أن يحقق أمنيته وهو ما يزال في ريعان الشباب..
ترجم لمحمد بن الطيب العلمي ليفي بروفنسال، (ص: 295 = 297)، وذكر بعض مراجع ترجمته محمد الفاسي في الأدب المغربي(ص: 535 بـ 536 أ)، وعبد الله كنون في النبوغ، (1: 314-315، 2: 201-210 و 253-254، 3: 83-84 و130-131 و291 و 312 و 213)، وذكريات مشاهير رجال المغرب ذكريات، (رقم 14.) وترجم له بروكلمان في تاريخ الأدب العربي ملحق، (2: 684 و 800 ع) وعبد الرحمن ابن زيدان، في (المنزع اللطيف/ ص: 309)، وفي (الإتحاف 5: 283/5: 283) وفي دائرة المعارف الإسلامية مقال (ليفي بروفنسال 1 المطبعة الجديدة، ص: 363). (وعبد الوهاب ابن المنصور في البدائع ج: 1)، وجاك بيرك في الأدب المغربي والشرق في (القرن، 18 فصله، 3 ص: 311-312)، والحسن اليوسي في “المحاضرات” (ص: 118-119)، ومحمد داوود في مختصر تاريخ تطوان (ص: 283 و 286 و 287-288)، وفي تاريخ تطوان (1/ 349-350 و 381-384- 389 و416، 3: 130ـ 142)، وعبد السلام بن عبد القادر ابن سودة في دليل مؤرخ المغرب الأقصى (1: 246 و 249 و 261).
يقول الفاضل محمد الأخضر في كتابه الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية (الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثة، الطبعة الأولى، 1977): “يعد محمد ابن الطيب العلمي من أكبر رجال الأدب بالمغرب، وكثيرا ما يضرب المثل بشعره ونثره في الرقة واللطف، ورغم حياته القصيرة، ألف كتبا عديدة لم يسلم من الضياع[1] إلا أهمها، وهو الأنيس المطرب، ونشير إلى أن من بين مؤلفاته رسالة معرفة الأنغام الثمانية، تؤكد معرفته للموسيقى[2] ومجموعة أشعار سماها القصائد المعشرة[3] في التشوق إلى البقاع المطهرة، وهي كما يبدو من العنوان قصائد ضمنها شوقه الشديد إلى زيارة الحرمين الشريفين. وتشمل قوافيها على جميع الحروف الهجائية، عشرة أبيات في كل حرف منها، وذلك ما يفسر كلمة المعشرات الواردة في العنوان..
وفي رسالة بعث بها الصاحب الشرقي إلى محمد ابن الطيب العلمي إشارة على مختصر ألفه هذا الأخير وأثار إعجاب أكابر الأدباء، وطربوا له كل الإطراب، وتعجبوا منه غاية الإعجاب غير أن أهم مؤلفات العلمي، ولا شك هو كتاب الأنيس المطرب فيمن لقيه مؤلفه من أدباء المغرب. وهو كتاب نفيس عرف به العلامة بروفنسال، وقد ذكر محمد بن الطيب العلمي في المقدمة الأسباب التي حملته على تأليفه، والطريقة التي سلكها فقال: “اقتصرت من الرجال على المشهور بين الجمهور، واطلعت فيه من الأهلة بعدد الشهور، ولم أبخل عليه بما جر الكلام من الحكايات، وبعض الشكايات، ومسائل علمية، اقتضتها الصنعة القلمية، وربما أدى الحال إلى المجون، والحديث- كما قيل- شجون، وحليت كلا بما يوافق وسورت أيديه بالثناء إلى المرافق، وسويت في الإنصاف بين المرافق والمفارق، ولم أغض من حق أرباب الصدور، يعلم ذلك من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وأتيت لكل واحد بكلامه، الصادر على السن أقلامه، لينتظره الأعيان، ويحكموا على العيان، وعذرا لذوي الألباب، ومن الولوج في ضيق هذا الباب، ولولا مخافة نهر السائل، وما يترتب عليه من المسائل، لكنت البرئ بقوله القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
ولطالما امتنعت من هذا التأليف، واعتذرت بأنى لم أبلغ فيه حد التكليف، ولما لم يغن الإمتناع، كشفت عن وجه تدوينه القناع[4].
يمكن القول استنادا إلى الدراسة القيمة التي خص بها محمد الأخضر صاحبنا العلمي في كتابة عن الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية أن الأنيس هو عبارة عن مختارات أدبية، قصد المؤلف بها أن يجمع تراجم معاصريه وانتاجاتهم، سواء منهم الشيوخ والتلاميذ.
وإذا كان عدد هؤلاء كثير؛ فإن قلة المعلومات جعلت العلمي يقتصر في كتابه على اثني عشر منهم، وفي ذلك دلالة على أن أصحاب الأدب الصرف لم يكونوا يحظون إلا بعناية ضئيلة من أصحاب كتب التراجم.
يمكن القول كذلك أن هذه المختارات تحتوي أيضا على استطرادات مختلفة وذلك ما يجعلها أقرب إلى المتنوعات الأدبية، ويذكر النموذج الذي ساقه العلمي بالمبدأ الذي اعتمده العرب وبخاصة ابن قتيبة.
ثمة ملاحظة معرفية مهمة وهي أن حرص محمد بن الطيب العلمي على توخي الحقيقة دفعه إلى أن يستقي معلوماته من المصادر الوثيقة، وينقل بالحرف ما كتبه المؤلفون أنفسهم..
والحال أن كتاب الأنيس للعلمي يعتبر مساهمة نوعية في التأريخ للحركة الأدبية خلال العصر العلوي، مع ما رافق ذلك من ازدهار علمي شمل عدة مجالات وفنون بالتوازي مع حركة عمرانية مباركة، وهو ما يعني الارتباط الجدلي بين ازدهار العلم وازدهار العمران.. ورغم قصر عمر العلمي؛ فإن عمله المبارك جعل سجله حافلا ضمن فضلاء بلدنا المبارك..
في الحلقة القادمة سنتعرف على بعض جوانب من كتاب الأنيس، وعن إبداعات أخرى للعلمي..
يتبع في العدد المقبل..
—————————————————
1. ومع ذلك لم ييأس الباحثون من العثور على المؤلفات الأخرى لابن الطيب العلمي أو على بعضها على الأقل، وهكذا عثر على كناشته العلمية التي كانت في ملك ع الكتاني، وهي اليوم بالمكتبة العامة بالرباط عدد 2249ك، وتحتوي على 29 بيتا لم تنشر بعد، ص: 17 – 19.
2. المقطع المتعلق بالموسيقى في الأنيس، ص: 173- 178 يدل على معرفة المؤلف لهذا الفن، معرفة تامة.
3. وليس “العشرة” كما جاءت عند عبد الله كنون النبوغ، 1: 315 انظر، م. القادري، نشر، 2: 204، النقاط ورقة 62 ظ، وقد وقع في نفس الخطأ، م. عفيفي في مجلة التربية الوطنية، عدد 2 و 3، أبريل 1963، ص: 30.
4. م. العلمي الأنيس ص: 2-30.
أرسل تعليق