محمد بن الطيب العلمي.. (3/3)
وعلى نفس المنوال الصوفي ذي الروح التائبة يمضي العلمي في نظم الشعر “الوجودي” مشتكيا من النفس والشيطان، وذلك في سياق وصف ليالي الأنس والشراب التي أضاع فيها جزءا من شبابه؛ يقول:
بتنـــا بــــروض وفـــيــه مــن الجـــمال فنــــون
من نــرجس وظـــــلال حواجـــــــب وعــــيـون
والكـأس تحسب حبي لـــــــه علـــيها ديـــون
عاطـــيته الـــراح حتى عــــراه مــــنه أنـــــين
تلجـــلج اللــــفظ مــنه فـــــــلا يكــــاد يبــــين
رشـــى إذا رام قــتلي يقــــول كـــــن فــيكون
وفي تقليد لقصيدة مدرك بن علي الشيباني[1]، كتب العلمي قصيدة رائعة بحق؛ جاء فيها:
هذي رسالة بما في الصدر من الهون والهوى والهجــــر
منظومة مثل الــلآلي تـزري بكل بكر مــــن بنــات الفـكر
فشعرها إنسان عين الشعر
من عاشق عان لما يـعاني تفــجرت من عينيه عــيـنان
فقلــبه مـــراتـــع الغــــزلان ودمعه قلائــــد العـــقيــــان
منظومة في صفحات النحر[2].
يقول الفاضل محمد الأخضر في كتابه الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية: (دار الرشاد الحديثة، 1977): ومن ألوان الشعر التي اشتهر بها محمد بن الطيب العلمي المسمطات؛ وهي قصائد مشطورة تتطابق فيها قافية المصراع الثاني في البيت الأخير من كل دور، دون أن تطابق قوافي المصاريع الأخرى، وقد أبدع العلمي في هذا الميدان وأغرب، وأتى فيه بقصائد رائعة منها قصيدة نظمها في صباه، وكتب على ظهرها بعض شيوخه كلمة استحسان جاء في أول هذا المسمط:
أفدي بــــأمي وأبــــي ظــبيا غـــريرا مـــر بي
يفـــتر عنـــي كالحبب يــا ليتـــه لــــم يـــغب
يشـــح عـــني بالكلام لكن يجــــود بالــكــلام
عـــهــوده أرض كــــلام تـــزري ببــــرق خـــلب
وددت تقــــبيل السلام منـه ولو يرمي السلام
مــا زال يمنـــع السلام عني بغــــير ســــــبب
ولــــم يجد لي با لوصال ولم يكلمـــني بـــــحال
فــــلم يكلـــم الغــــزال إلا النـــبي العـــــــربي..[3].
وقد برع العلمي كذلك في التوشيح براعة كبرى، ونظم فيه قطعا عجيبة منها هذا الموشح الذي عارض به موشح شهاب الدين العزاري، يا ليلة الوصل وكأس العقار.
يا ليلة السكـــر ويوم الخمار بين الصغار علمتها الأكواس من الجمار
بــــــات يحـــينا نســـــيم الريـــــاض
حتـــى اكتسى الليل قميص البياض
كأنــــــما يملا الطـــــــــلا من الحياض
مهفهف ينسيك ذات الخمار غب المزار يدير باليــمنى لنا واليســــار
فاشرب فما في شربها من جناح
هذا غـــــراب الليل ضــــم الجناح
وقهقه الإبريـــق والطــــــير نــــاح
وينتهي هذا الموشح الرائع بقول العلمي:
يا ليلة الوصل وكأس العقار دون استتار علمتماني كيف خلع العذار[4].
لا تقل شهرة ابن الطيب العلمي ناثرا عنه شاعرا، والأنيس شاهد على ذلك، إذ كثيرا ما يستعمل النثر الفني بكل المحسنات والطرق البديعة السائدة في عصره. يقول محمد الأخضر في كتابه سابق الذكر: فكتاب الأنيس، سواء في مفهومه أو شكله أشبه شيء بقلائد العقيان لابن خاقان أو بالأحرى المنتقى المقصور لابن القاضي الذي يعتبر بالتقريب مثيلا له..[5].
من أشهر مقامات العلمي “مقامة الحلاق“، وهي مقامة لا راوي لها يروي أخبار البطل، وإنما يحكي قصتها بعض الظرفاء الثقات، وتكمن القيمة المضافة للمقامة في المعلومات القيمة التي تقدمها لنا عن المجتمع المغربي في (القرن الثاني عشر = 18م).
يقول العلمي في مقامة الحلاق: “أخبرنا بعض الظرفا من ذويي المروءة والوفا، ممن اعتمد على نقله وروايته، وأحكم بصحة عقله ودرايته، قال: جلست يوما مع جماعة من الأحباب، وطائفة من الأصحاب على شيء من الشراب نتذكر ما مر في أيام الشباب، وبيننا شاب حسن الصورة، عليه الملاحة مقصورة واللطائف في شمائله محصورة إلا أن شعر شاربه قد طال، فقال: أنا أخبركم بخبر يعجب لذكره الحاضرون، ويطرب لسماعه المنصتون والناظرون، كنت من شبابي أتزخرف المكاسب وأتخير منها ما يناسب، فصليت يوما صلاة الاستخارة فوجدت نفسي مائلة إلى التجارة، فقصدت مدينة سنجار، وفتحت بها حانوتا في سوق التجار، ووضعت فيه من محاسن القماش، ما أستعين به على المعاش، وزينت الدكان بحسب الإمكان، وكسوتها بالأستار على أربعة أركان، وعاملت أهل الأسواق، بمكارم الأخلاق، واستعنت بالقربة، على ليالي الغربة، فاتفق لي في بعض الأيام، ضرورة إلى دخول الحمام، فوجدت في طريقي جماعة من النسوان، بينهن فتاة كأنها قضيب لبان، فلمحت من تحت الإزار معصمها وقد سطع صفاؤه، وأبصرت من تحت النقاب مبسمها وقد لمع ضياؤه فوقفت، وقد جرى من الجفون دمي، وعجزت عن نقل قدمي، ثم تتبعتها من بعيد، ولاحظتها إلى أين تريد، فدخلت دارا يدل إتقان بابها، على سعادة أربابها.. [6].
يعلق محمد الأخضر في كتابه سابق الذكر على هذا الجزء من المقامة بقوله: “رغم كون المفروض أن حوادث المقامة تجري في سنجار؛ فإن شخصيتها مغربية من الناحية النموذجية، عرف العلمي كيف ينزلها منازلها بكيفية تعريفية، فبطل القصة شاب أديب اختار مهنة التجارة في القماش، وعاشر زملائه التجار بالحسنى، وزارهم ليتسلى، غير أن شغفه بمحبوبته دفع به إلى ارتكاب خطأ فادح، بانتهاك بيت الخطيب، وقد تكون هذه الشخصية تمثل المؤلف نفسه، والخياط في القصة يخيط في دكان وعنده من الصناع ألوان ذوو أذقان ومردان، صنوان وغير صنوان[7]، وهو أيضا أديب يصف نفسه قائلا:
أنا الخــــياط لـــي رزق ولكن أرى حالي من الإفلاس عبره
ذراعي فيـه من فقرى مقص ورزقي خارج مـــن عين أبره[8].
أما الحلاق الذي سميت المقامة باسمه، ولم نتحدث عنه بعد أنه كسائر أفراد حرفته رجل ثرثار وطفيلي، غريب وطماع، يتدخل في أمور الغير وينتهي به الحال إلى أن يجر من أحسن إليه إلى أحرج المواقف، وهو في هذا يذكرنا قليلا بقصة حلاق أشبيلية.
وفي رسالة بعث بها محمد بن الطيب العلمي إلى أحد أدباء مكناس، كان قد اعترض عليه في إحدى مرثياته التي جاء فيها:
إن تمت يا محمد اليوم لا تعتب فمن قبل ماتت الأنبياء.
فأنكر الأديب المكناسي الفاضل كلمة العتب من هذا البيت وقال: الإتيان بها غير مباح، وزعم أن ارتكابها من الخطأ الصراح[9]، فكتب إليه العلمي رسالة تدل على سعة اطلاعه ومقدرته الفائقة في النقد الأدبي: ” .. فقد بلغني أنك طالعت قصيدتي العديمة النظير، الفائقة الدر النثير والروض النضير، المنظومة على الارتجال، بشهادة عدة من الرجال، فأنكرت كلمة العتب من ذلك البيت، الموضوع لتحلية الميت، وأنى أقول: لو تزودت شيئا من المعقول، أو طرفا من المنقول، لتأملت قبل أن تقول، واخترت التسليم لأهل العقول، وهب ذلك الخطأ قد كان وتصور فيه الإمكان، فالإنسان لا تؤمن عثراته مصائبه، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه، وقد ذكرت في إيرادك، المبنى على مرادك أنى جعلت الميت ممن لم يرض بالوفا، ولم يقتد فيه بمن فات، وأن ذلك حمله على عتاب من أماته، حيث لم يطل حياته، فنهيته عن ذلك العتاب بهذا الخطاب، وقد حملتني في ذلك إثما كثيرا، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، قلت: وهذا من العبيد الذي لا يمكن أن يقصد، وتأويله لا ينكر أبدا ولا يجحد، وذلك قولي “لا تعتب” نعني على الموت الذي أصاب، فالكل به مصاب، لا على رب الأرباب، ومع ذلك فهي هنا مصروفة عن معناها الذي له وضعت، كما وردت في أشعار القوم وشيعت، قال شاعرهم.
لا تعتبني يا هند إن مت فكلما حي إلـــى الموت
أخذه من قول الآخر:
دع العتب يا سلمى فإن ذقت موتة فهـــــذا دعــــــاء للـــــبرية شامــل
وقرينة السياق تنفي ذلك المعنى البعيد، وتعين الوجه الذي أريد..[10] يا سلام عليك يا علمي!!!
كذلك كان هذا الرجل الفاضل الذي عاش حياة مضطربة ومات مبكرا (1134/1721)، لم يمنعه ذلك من أن يكون أحد أكبر رجال الأدب، ليس في عصر المولى إسماعيل فحسب بل عبر عصور المغرب كلها، وأن تعريفا مختصرا كهذا لا يمكن بحال أن يوفي هذا الرجل الفاضل حقه. رحم الله العلامة العلمي وجازاه عن المغرب والأدب خيرا. والله الموفق للخير والمعين عليه..
—————————————————–
1. انظر الكلام عليه عندك ك بروكلمان تاريخ الأدب العربي، 1: 132 و 437.
2. م العلمي الأنيس، ص: 229.
3. م العلمي، الأنيس، ص: 310.
4. ع كنون النبوغ، 3: 312 – 313.
5. ل بروفنسال شرفاء، ص: 297.
6. م العلمي، الأنيس، ص: 262.
7. المصدر السابق، ص: 263.
8. المصدر نفسه.
9. المصدر السابق، ص: 308.
10. م. العلمي، الأنيس، ص: 308، وما بعدها.
أرسل تعليق