محمد بن أسلم الغافقي
في الحلقة السابقة من “علماء وصلحاء” كنت قد عرّفت بالعالم الطبيب الصيدلاني ابن الجزار القيرواني، وأجدني مشدودا -والحق يقال- إلى التعريف بشخصيات أخرى برعت في مجال العلوم التطبيقية، بالأخص في ميدان الطب.
ومحمد بن أسلم الغافقي من الشخصيات المغمورة وغير معروفة الترجمة، لكن تراث هذا العالم الفذ في ميدان طب العيون لازال يثير اهتمام الباحثين على مستوى العالم، وهناك إجماع على أن إبداع هذا الرجل الفاضل في ميدان الطب عموما، وطب العيون خصوصا يمتاز بالدقة والصرامة العلمية والمنهجية في طرح القضايا والفرضيات؛ فلنقترب ما أمكن من إنجازات هذا العالم الأندلسي الكبير عبر كتابه “المرشد في الكحل”.
لقد انتظر ابن أسلم الغافقي طويلا حتى قرئ جزئيا بفضل المستشرق الكبير -ماكس مايرهوف-، ثم بشكل تفصيلي من طرف الدكتور الفاضل حسن علي حسن الذي أنجز أطروحة دكتوراه بكلية الطب بمدريد-وليس في جامعة عربية- حول مؤلف ابن أسلم الغافقي وإسهامه في تطور طب العيون العربي والإنساني.
لا نعرف بالضبط سنة ولادة ووفاة محمد بن قسّوم ابن أسلم الغافقي، لكن يمكن وضعه زمانيا في القرن الثاني عشر الميلادي اعتمادا على كل من -Leclerc- في “تاريخ الطب العربي” و -Hirschberg- في “أطباء العيون العرب”.
يقول الدكتور حسن علي حسن في دراسته: “طب العيون عند العرب: ابن أسلم الغافقي” (مجلة الباحث، السنة 1، عدد 5-6، 1979): “فنحن إذا رجعنا إلى كتاب ابن أبي أصيبعة، لا نجد في كتابه العائد إلى القرن السادس الهجري “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” أي ذكر للغافقي، علما بأن هذا المؤرخ العربي كان كذلك طبيب عيون، وبالتالي فمن المستبعد أن يؤلف مجلده دون أن يمر على ذكر الغافقي، إن كان عاش في عصره”. بعد هذا يمكن القول أن صاحبنا الغافقي قد عاش حكما بعد القرن السادس الهجري، أي بعد نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. أما عن مكان ولادة ابن أسلم الغافقي، فمختلف فيها، فالبعض يرى أنه من غافق التي تسمى اليوم -Guijo- في مقاطعة -Pedroche- بالأندلس، وهناك من يرى أن غافق التي ولد فيها الغافقي تسمى اليوم -Belacazar- أي القصر الجميل، وعلى كل حال فكلا البلدتين توجدان في منطقة قرطبة التي يمكن نسبة ابن أسلم لها بكل ارتياح.
تشح المصادر كذلك في تعريفنا بمراحل دراسة الغافقي ونشأته العلمية، لكن مخطوطة كتاب ابن أسلم “المرشد في الكحل” تبين على بعض عناصر التنشئة العلمية للغافقي وولعه المبكر بالعلم خصوصا ميدان الطب.
نفهم من المخطوطة أن ابن أسلم الغافقي مارس مهنة الطب من بابها الواسع، بعدما تفقه في أمهات كتب الطب السابقة عليه: مثل كتب حنين ابن إسحاق وعلي بن عيسى، والزهراوي وغيرهم. يقول الغافقي في مقدمة كتابه: “يا بني، لما نظرت في هذه الصناعة، أعني صناعة الطب، فلم أجد في ذلك كتابا جامعا لجميع ما يحتاج إليه من علم وعمل”..
كان أول من عرف بالغافقي العالم الفرنسي الشهير-Leclerc- في كتابه “تاريخ الطب العربي”، الذي تحدث عن مخطوطة “المرشد في الكحل”، وجاء بعده العالم -Hirschberg- في كتابه “أطباء العيون العرب”، وقد نبه هذا الأخير إلى وجود مخطوطة لكتاب الغافقي في مكتبة الإسكوريال تحت رقم 835، وقام -Hirschberg- بمساعدة بعض المستشرقين بترجمة أول وآخر المخطوطة إلى اللغة الإسبانية.
بعد ذلك سينبري ماكس مايرهوف لدراسة المخطوطة بكثير من الدقة، وترجم القسم الأكبر من المخطوطة المتعلق بطب العيون، ثم نشر ترجمته للقسم الأخير (المقالة السادسة) في إسبانيا عام 1933، بمناسبة المؤتمر الدولي الرابع عشر لطب العين وبناء على طلب مختبرات شمال إسبانيا !!(CUSI)
ويحكي الدكتور حسن علي حسن في مقاله سابق الذكر ملابسات إنجازه رسالة دكتوراه حول “طب العين عند الغافقي” في جامعة مدريد سنة 1977 بقوله: “نبّهني أحد الأساتذة في المعهد الوطني لطب العين بمدريد وهو-Villamor Roldan- إلى وجود طبيب عربي مشهور –عند الإسبان- في القرن 12م، خصص جزءا كبيرا من دراسته في طب العين، ودفعني إلى البحث و التنقيب عن مراجع له. وكانت بلدية قرطبة عند استضافتها للمؤتمر السنوي لأطباء العيون الإسبان عام 1974، قد نوهت بابن أسلم الغافقي، باعتباره من أبناء قرطبة الذين تفخر بهم. وبالفعل فقد توجهتُ إلى مكتبة الإسكوريال وهناك وجدت المخطوطة الوحيدة المتبقية للغافقي، وبعد التشاور، باشرت بتحضير الرسالة تحت إشراف الدكتور Pedro Laim Entralgo– أستاذ تاريخ الطب في جامعة مدريد..”.
وفي الواقع فإن لجنة المناقشة أبدت، بكافة أعضائها، وهم من كبار أساتذة وجراحي طب العين في مدريد- أسفها لبقاء عمل ابن أسلم الغافقي مجهولا حتى تاريخه، وأبدوا رغبة في إظهار عمله للنور، ذلك أنهم أعجبوا فعلا بعطاء ذلك الطبيب الإسباني!! كما يقولون، في مجال طب العين والطب العام أيضا. فقد أثنوا على تفوقه، وبخاصة على كونه سبق عصره حول نقاط عديدة ثم أنهم وافقوا على أن العديد من عطاءاته هي كشوفات فعلا وما تزال حتى اليوم صائبة..
يحمل كتاب ابن أسلم الغافقي اسم “المرشد في الكحل”، والكحل بمعناه العام الشامل هو تلك المواد التي توضع بين الجفنين بواسطة “ميل”، لكنه بالمعنى الطبي الصيدلاني الخاص، الكحل هو مادة معدنية تركيبها -sulfate d’antimoine-، ويطلق اسم الكحّال على الطبيب الذي يعرف وضع الكحل-بالمفهوم العام- واستعماله، أي طبيب العين.
يقسم الغافقي مخطوطته “المرشد في الكحل” إلى -6- أقسام أو سبع مقالات؛ تتألف كل مقالة من عدة فصول، وكل فصل مقسم إلى عدة دروس مميزة فيما بينها بحروف كبيرة. وتتميز المخطوطة بترتيب منطقي رائع، وتسلسل الفصول يبين على نضج منهجي كبير عند صاحبنا ابن أسلم، وهو يبدي رأيه في كل الأمور ويدعمه بالبرهان معتمدا على تجربته الكبيرة العلمية والعملية؛ وثقته بنفسه كبيرة-كما نستفيد من أطروحة حسن علي حسن- لدرجة أنه يجرؤ على انتقاد المشاهير في عصره وما قبله.
من مميزات كتاب “المرشد في الكحل” لابن أسلم الغافقي أن به شرح واسع وكامل عن كل ما يتعلق بطب العين، بحيث خصص الغافقي 55 فصلا لدراسة : تركيب أعضاء العين، أمراض العين وعلاجاتها.
يقول حسن علي حسن في مقاله سابق الذكر (ص: 143-144): “يبدأ الغافقي كتابه بذكر الأسباب التي دفعته للقيام بموسوعته، ومن ذلك أنه لم يكن يجد كتابا في الطب يجمع كل ما يحتاجه المرء حول العين من علم وعمل، ثم يعطي موجزا عن محتوى المقالات الست التي يتألف منه عمله، وبعد السرد ينتقل إلى شرحها بالتفصيل. يقسم الغافقي المقالة الأولى إلى أربعة أبواب: في وصايا أبقراط، في شرف الصناعة، في الاسطقسات (أبسط الأجسام المركبة)، في مزاج العين.
حول وصايا أبقراط، يورد النص الكامل الذي تناقلته الكتب القديمة عن أبي الطب، موجها كلامه لولده، ثم ينتقل للتحدث عن شرف الصناعة، وكيف أن الطب هو أفضل وأشرف من جميع الصناعات وأعظمها نفعا. فالطب هو معرفة الأشياء المتصلة بالصحة وبالمرض، وبالحال التي ليست بصحة ولا مرض. ثم يستعرض بشكل سؤال وجواب جملة من المسائل تتعلق بتعريف العين، ووضعها وأشعار الأجفان وميزاتها إلخ.. وبعدها ينتقل للتحدث حول الطب فيقسمه إلى قسمين: علم وعمل.
1- العلم ينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام: العلم بالأمور الطبيعية وهي سبعة: الاسطقسات، المزاج، الأخلاط، الأعضاء، القوى، الأفعال والأرواح؛
2- العلم بالأمور التي ليست بطبيعية وهي ستة : الهواء، الطعام والشراب، الحركة والسكون، النوم واليقظة، الاستفراغ وأخيرا الاحتقان؛
3- العلم بالأمور الخارجة عن الطبيعة وهي ثلاثة: الأمراض، أسبابها وأعراضها.
أما العمل عند محمد بن أسلم الغافقي فينقسم إلى قسمين:
1- حفظ الصحة على الأصحاء، وإذا طبق هذا على العين تستخلص من ذلك ثلاثة أنواع:
حفظ الصحة على العيون التي لم يمس من صحتها شيء؛ حفظ الصحة على العيون التي ابتدأت تحيد عن الصحة؛ وحفظ صحة العيون الضعيفة مثل عيون الأطفال والمسنين؛
2- مداواة الأمراض، تتم بوسيلتين: الأغذية والأدوية، وبالجراحة: وهذه تكون إما باللّحم، أو بالعظم، أو بالعروق الضوارب وغير الضوارب.
يعطي الغافقي في كتابه “المرشد في الكحل” معلومات نفيسة حول علاقة العين بالمزاج والعالم الخارجي، فنراه يصف العين الزرقاء مثلا بأن مزاجها بارد يابس، ونظرها أقوى بالليل من النهار، وينطبق هذا على أعين المشايخ والمسنين عندما تميل أعينهم نحو الزرقة، أما العين الكحلا (السوداء) فهي أكثر حرارة ورطوبة ولذلك أكثر ما يعرض لها علل البخارات وعلل الماء لكثرة رطوبتها؛ وكلما كانت العين أشد سوادا كلما كانت أكثر حرارة ورطوبة، وأحد أدلته على ذلك أهل الحبشة؛ فإن أعينهم سوداء لأن الغالب على بلادهم الحرارة.. فلاحظ أيها القارئ الكريم عظمة هذا الطبيب الفاضل وعلو همته، فهو ينتقل من تشريح العين وخصائصها وأمراضها وأمزجة أصحابها، وصولا إلى ربط لون العين بالجغرافيا والمناخ، وبغض النظر عن التقدم العلمي الذي حصل في ميدان طب العيون بعد الغافقي؛ فإن كتابه “المرشد في الكحل” يعتبر بحق كتابا موسوعيا مستوعبا لما قبله ومتفوقا على عصره ومستشرفا لمستقبل صناعة طب العيون في الأندلس، وما شهادة لجنة مناقشة أطروحة حسن علي حسن في حق الغافقي إلا دليل على ما أقرره في هذا المقام المبارك.
يشرح لنا الغافقي كذلك كيف أن مزاج العين ومزاج غيرها من أعضاء الجسم، يتغير حسب عدة ظروف: السن والجنس ومكان الإقامة والعادة والمهنة.. ويقول الغافقي أن كحولة العين تكون من سبعة أسباب: نقصان النور الباصر؛ كدورة النور الباصر، صغر الرطوبة الجليدية، انخفاض الرطوبة الجليدية، كثرة الرطوبة البيضية، تكاثف الطبقة العنكبوتية وغلظ الطبقة العينية… أما أضداد هذه الأسباب السبعة فتعطي اللون الأزرق.
أما المقالة الثانية من كتاب “المرشد في الكحل” فيقسمها الغافقي إلى تسعة أبواب هي: في جملة الكلام على أعضاء العين؛ في ذكر أعصاب العين؛ في صفة العروق غير الضوارب؛ في صفة العروق الضوارب؛ في صفة عضلات العين؛ في صفة العين؛ في صفة حاسة البصر؛ في صفة الروح النفساني؛ في ذكر القوى الطبيعية.
يقول بن أسلم الغافقي في مقدمة المقالة: “إن الطبيعة احتاجت لتركيب العين من أعضاء كثيرة مختلفة الجوهر والكيفيات، ذلك أن العين جعل لها العروق الضوارب لتمدها بالحياة وتوصل إليها الروح النفساني ولو لم يكن لها عروق ضوارب، لكانت العين جامدة غير متحركة، وجعل لها أعصاب لتوحي لها قوة الحس، وجعل لها عضلات لتحركها يمنة ويسرة وإلى فوق وإلى أسفل، وجعل لها رباطا كيلا تزول العين من موضعها بكثرة حركاتها، وجعلت خفية ليسرع هروبها من الأشياء الواردة عليها من خارج، وجعلت في أعلى البدن لتشرف على القريب والبعيد. ثم يحدثنا الغافقي عن العصب البصري فيقول: “هناك عصبان مجوفان، ينشآن من مقدمة الدماغ، من موضع الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثديين، اللتين بهما تكون حاسة الشم، وعندما يصلان إلى منبت المِنخرين، يتصلان، وذلك حتى إن عرضت آفةٌ على إحدى العينين، يتحول النور إلى العين الأخرى، بعد ذلك ينفصلان، والعصب الذي منْبتُه الجهة اليمنى من الدماغ يذهب إلى العين اليمنى، والآخر يذهب إلى العين اليسرى، وعندما يصل العصب إلى العين، يتعرض وينبسط ويتشابك حول الرطوبة الزجاجية ويأتيها بحاسة البصر” فأنت تلاحظ أيها القارئ الكريم دقة هذا الرجل في الوصف، وتعمقه في التفاصيل، كما يبدو من كتابته حبه لميدان اشتغاله وحرصه على التوضيح والتبسيط من داخل التعقيد وفق قواعد المنهج الذي يربط العلم بالعمل مثلما بسط الغافقي نفسه ذلك كما مر معنا.
ويخصص ابن أسلم الغافقي المقالة الرابعة لدراسة أمراض العين. فيقول أن الضرر ينال حاسة البصر على ثلاثة أوجه: فقدان النظر كلية أو العمى؛ نقصان النظر: غشاوة وظلمة أو خروج النظر عن طبيعته: فيرى الإنسان أشياء ليست موجودة في الطبيعة.
ويفيدنا الدكتور حسن علي حسن في مقاله حول الغافقي (ص: 151): أن ابن أسلم الغافقي يختتم المقالة الرابعة من كتابه بباب يسميه “الموفي” أي المكمل لما سبق، وقد عرض فيه الدلائل التابعة للأمراض، فهناك دلائل تشير إلى وجود مرض، ودلائل تشير إلى الصحة، ودلائل تشير إلى حالات ليست بصحة وليست بمرض، وكل نوع من هذه الدلائل:
– إما أن يشير إلى شيء مضى وانتهى (دلائل مذكِّرة): فمثلا البياض الحادث في العين يدل على وجود قرحة قديمة؛
– إمّا يشير إلى شيء حاضر (دلائل دالّة): مثال الأرماد والسبل والظفرة؛ فإنها تدل على نفسها لا على غيرها؛
– إمّا يشير إلى شيء قد يحصل في المستقبل، ويقال لها النذر، مثال ذلك، الخيالات التي تنذر بنزول الماء: -Cataracte-.
أما المقالة الخامسة فيخصصها الغافقي للأدوية وكيفية تحضيرها، وعن الألوان التي تفيد أو تضر النظر.
ولا يتسع المقام هنا للتفصيل في الأدوية والعقاقير المتعلقة بأمراض العين وما ارتبط بها من صداع وشقيقة وغيرها، فإن المقالات المخصصة لذلك في كتاب “المرشد في الكحل” مفيدة وغزيرة بحيث أن تخصيص دراسة خاصة بذلك يبدو أمرا ملحا ومفيدا؛ وسأعمل ما في وسعي لتحقيق هذه الدراسة خدمة للتاريخ العلمي المغربي، وبحثا عن ألق جديد في سماء العلم ببلادنا ربطا للماضي العلمي المجيد بحاضر متعثر لعل المستقبل يكون أفضل.
توفي ابن أسلم الغافقي على الأرجح في أواخر القرن 12م، رحمه الله ونفعنا بعلمه وجازاه عن الإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
أرسل تعليق