محمد المُعطى بن الصالح
ساهمت الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد بدور وافر في ازدهار العلم بالمغرب خلال القرن العاشر الهجري وما بعده، ولقد ترسخ في هذه الزاوية المباركة تقليد يعتمد على مصاحبة التعليم والتربية الصوفية بنفس عمراني ظاهر تجلى في منهج يعتبر الفكر العلمي أساسا في مدرسة الإسلام العمرانية. وقد مر معنا الحديث عن مؤسس الزاوية سيدي أبي عبيد الشرقي ذي المشرب الجزولي الشاذلي، والذي أصر على أن ينبت حاضرة في بلد خلاء قفر مهجور، فانطلقت -الزاوية- المدينة في أداء رسالتها العلمية والحضارية بفضل من الله.
وقد آثرت أن أتوقف في هذه الحلقة مع أحد رواد هذه الزاوية علما وعملا وفكرا وذوقا، يتعلق الأمر بسيدي محمد المعطَى بن الصالح، صاحب: ذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج.
واعتمادا على بعض المصادر المعاصرة للشيخ محمد المُعطى أمثال الشيخ محمد ابن عبد الكريم العبْدوني في كتابه يتيمة العقود الوسطى في مناقب الشيخ المعطَى، والشيخ التاودي بن سودة في فهرسته الكبرى عند ترجمته الشيخ محمد المعطَى في الفترة التي أخذ يحرر فيها أول كراسة من تأليفه في ضريح سيدي موسى الراعي المدفون خارج باب عجيسة بحاضرة فاس على مقربة من مشهد سيدي أحمد البرنوصي الواقع في جبل زلاغ، وقد كان من أوائل الذين اهتموا بترجمة سيدي محمد المعطَى معاصره العلامة ابن الطيب القادري في نشر المثاني الذي استأثر في النشر بذكر أن ذخيرة المحتاج كانت تتلى على كرسي خاص بجامع القرويين على مقربة من الثريا الكبرى بفضل من الله..
يقول الشيخ محمد التاودي بن سودة في فهرسته الكبرى عن سيدي محمد المعطى بن الصالح: “ومنهم الولي الكبير ذو الفخر الشهير، والقدر الخطير، سيدي المعطى بن صالح العمري الأصل، التادلي الدار، لقيته بمنزله وتبركت به ودعا لي، وقرأت عليه الحديث الأول من البخاري، والأول من شمائل الترمذي، وأطلعني على أسفار من كتابه ذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب التاج، له أتباع كثيرة، ومناقب عند أصحابه شهيرة، ويكفينا منها كتاب الذخيرة. ذكر أن أول ما ألهمه الله وأخذ في الشروع فيه وهو بفاس عند ضريح سيدي موسى الراعي خارج باب الجيسة أعجبته صلاة حضرت له فجعل يبني عليها، فلم يزل على ذلك إلى أن بلغت عند وفاته نيفا وسبعين سفرا في القالب الكبير، وتوفي رحمه الله حادي عشر المحرم فاتح ثمانين ومائة وألف[1]. وتكمن أهمية المعلومات الواردة في فهرسة التاودي في اللقاء المباشر بين الرجلين وفي مكانتهما العلمية والأخلاقية، بما يمكن اعتباره شهادة حية حول عالم وقضية ومسار فكري وإنساني، رحمة الله عليهما.. “.
لقد بدأ الشيخ محمد المعطى في تحرير الذخيرة بفاس حوالي سنة 1150ﻫـ، ونعرف أيضا مراسلاته مع علماء عصره من خارج المغرب من أمثال الشيخ جعفر البرْزَنْجِي الذي كان مهتماً أيضاً بالسيرة النبوية وبالمعراج..
ويفيدنا العلامة عبد الهادي التازي “أن الشيخ محمد المُعطى بن صالح كان رجل مواقف اجتماعية رائدة حيث كان يقوم، أثناء بعض الظروف العصيبة، بمساعيه الحميدة بين هذا الجانب أو ذاك، ولاسيما أثناء العقود الثلاثة التي أعقبت وفاة السلطان المولى إسماعيل في تادلة، وبين أهل الرباط وسلا، وبين فاس الإدريسية، وفاس المرينية.. كان الشيخ عنصر بناء، وكان يربأ بنفسه عن أن يكون له غرضٌ وراء مساعيه، بل كان ينفق من ماله من أجل إسعاد المحتاجين وخاصة أوقات المجاعة..”[2].
وقد حضي الشيح صالح الشرقاوي والد سيدي محمد المعطى بمكانة كبيرة عند علماء عصره، ويكفي أن نعرف أن المؤرخ محمد الصغير الإفراني خاطبه بقوله: “نحن خُلْجانكم وأنتم البحار”.
وقد خصص محمد المعطى جانباً مهماً من الذخيرة للحديث عن القدس الشريف، وقد كان الرجل مبدعاً في هذا الوصف، لأن تأليفه الذي يصل إلى بضع مجلدات لم يقتصر فيه على الكلام المنثور والمنظوم، ولكنه تجاوزه إلى شيء لم يكن معروفاً في عصره، وهذا الشيء هو الأداء بالرسم والصورة، وليس الرسمَ والصورة فقط، ولكن الرسوم والصور التي كان يصحبها استعمال الألوان التي تتماوج بين الأحمر والأخضر والذهبي اللامع، وهكذا نجد أنفسنا أمام لوحات فنية رائعة الدقة والانسجام، بحيث يشعر الناظر إليها أنه يعيش إلى جانب فنان ومهندس رفيع المستوى، دقيق التعبير، عما كان يخالجه من حب وتقدير للمكان[3].
لكن الغريب أن لا أحد من الذين كتبوا عن السيرة النبوية انتبه إلى الشيخ محمد المعطَى وإلى ذخيرته لماذا؛ لأنه كتب السيرة بطريقة غير الطريقة التي سلكها معاصروه؛ إنه عوض أن يروي عما قيل عن نشأة النبي، وعن حياته، كان يعمد إلى أسلوب آخر، هو أن يُفرغ سيرة الرسول الكريم في صيغة صلاة على النبي، يبتكر أسلوبها ويضمنها نمطاً من أنماط سيرته.. فهو يسرد السيرة، ولكنه في ذات الوقت يمزجها بالصلاة على النبي الكريم..
يقول في الذخيرة: “اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آل سيدنا محمد عين الأعيان، ونور بصيرة أهل السعود والعيان، الذي لما أردتَ أن تُظهر مزيته على الأملاك والإنس والجان، وتنشر صيتَه على أقطار السماوات والأرضين وسائر الأكوان، أسريتَ به من مكان إلى مكان لتريه ما خصصتَ به ذلك المكان من الآيات والعجائب الدالة على باهر قدرتك التي تحار في وصفها العقول ولا تكيفيها الأذهان..”.
ولما كانت السيرة النبوية تتضمن في جملة ما تتضمنه، الحديث عن إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقد وجد الشيخ المعطَى نفسه يتحدث عن بيت المقدس.. ووجد نفسه بحكم الواقع مدفوعاً لوضع الرسوم والصور، كان الشيخ يسبق عصره، وكان يؤمن بأن الصورة أصدق دلالة من الكلمة بتعبير العلامة التازي..
خصص صاحب الذخيرة للقدس وفي الإسراء والمعراج سبع مجلدات، وله في الحج وزيارة المدينة سبعة، إلى آخر المجلدات التي بلغت نيفاً وسبعين مجلداً، وقد اشتهر هذا التأليف مشرقاً ومغرباً وقرَّضه أعلام عصره من الحجاز ومصر وتونس وغيرها من بلاد المغرب الكبير، لكن مؤرخي السيرة لم ينتبهوا إلى أهميته ضمن هذا الفن..
ونستفيد من مقالة عبد الهادي التازي أن الذخيرة هي المصدر العربي الوحيد الذي عَمِل على أن يوظف الرسوم والأشكال في الحديث عن القدس الشريف استنهاضاً للتراث، وهو حدث يقول العلامة التازي أنه لم يرَ له نظيراً في الأرشيفات العالمية. وهكذا نجد لوحات رائعة بريشة الشيخ محمد المعطَى، للقدس الشريف: اللوحة الأولى تصور خارطة، أو إذا شئت القول: تصمم المكان الذي تقع فيه القبة، تصوره على خلْفية أن الإقلاع كان منه للعروج إلى السماء..، أما عن اللوحة الثانية فهي تشخص بيت المقدس كحلْقة وصل بين السماء والأرض، فهي تكملة للأولى بمعنى أنها تكمل المعراج إلى أن يصل إلى سدرة المنتهى حيث كان الرسول على قاب قوسين أو أدنى من الحضرة كما تقوله أدبيات الإسراء والمعراج.. والطريف في أمر هذه اللوحة، أنها وهي تهتم بأمر حدث هام في السيرة النبوية يتعلق بموقع جغرافي خاص في الخارطة السماوية، أنها أي اللوحة كانت بحاجة من الشيخ محمد المعطَى وهو العالم الفلكي إلى استحضار مصادر من أمثال تأليف العلامة القزويني، الذي تناول الحديث عن الجانب العلوي من الكون، كان بحاجة إلى أن يعيدنا إلى مصادر في علم الفلك في جامع القرويين المبارك..، وإن استحضار علوم الفلك في فهم أدبيات الإسراء والمعراج، لينبئ عن إبستيمولوجيا معرفة كونية تربط الإنسان والوحي والكون بشكل جدلي بفضل من الله، والحال أن تغييب هذه الجدلية المباركة في النظام المعرفي الإسلامي نتج عنه تضييع العلم والدين معا رغم بقاء قشورهما..، لا يتعلق الأمر هنا بحكم فقهي أو حكم قيمة، بقدر ما هو موقف نابع من تحليل فلسفي له أسسه وقواعده ومنهجه، ووفق تصور معين لحضور الدين في التاريخ..
لابد إذن أن يتصوّر الشيخ المعطَى في لوحته منازلَ القمر ومنازل الأفلاك.. ومن هنا وجدناه يعتمد على (بيرْكَارِه) ليضع دائرةً أولى تحتوي على أسماء المنازل التي يبتدئها من الشرطين ثم البطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرفة، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، والذابح، وبلع، والسعود، والأخبية، والمقدم والمؤخر والرشا، تنتهي هذه الدائرة لتبدأ دائرة أخرى للأفلاك: فلك القمر القريب من أهل الأرض، ثم عطارد، والزهرة، الشمس، والمريخ، والمشتري، وقد رسم في كل فلك اسماً من أسماء الأنبياء: موسى، إدريس، المسيح، هارون، يوسف، عيسى[4].
ويختم الدكتور التازي رسم هاتين اللوحتين برسم ثالث. ألح الشيخ محمد المعطَى على أن يكون على مقربة من رسوم بيت المقدس، وقبة السماء، وهذا الرسم الثالث يعبر في الواقع عن العمق الفكري للشيخ الذي كان يريد أن ينبه قراءه إلى الأثر العظيم، الذي كان ويكون وسيكون لهذه الريشة التي لا يخلو إنسان من الاعتماد عليها، ولا تخلو ثقافة في الدنيا من الإشادة بها، ولا حضارة من الحضارات دون الاهتمام والتبصير بقامتها وقيمتها، ألا وهي القلَم.
الشيخ المعطَى في أكثر من مرة أتى برسم القلم؛ وكأنه يذكرنا بأن سر هذا الكون الجميل كله مبني على القَلَم، وهو من جهة أخرى ينبه إلى حقيقة أكبر منا، وهي أن القرآن عندما أقسم بالقَلَم وما سطَّر، إلى جانب قسمه بالله مبدع الكون ومدبره، أقول القرآن عندما أقسم بالقَلَم كان يقول لنا بصريح العبارة؛ إنه لا شيء بدون قَلَم، يحيلني تأمل الدكتور التازي حول فن الشيخ المعطى إلى حقيقة كونية متمثلة في ضرورة الجمع بين القراءتين ضمن جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، قراءة بالله توقا إلى عالم الأمر الذي جُسد سلوكيا في أحمد، مرورا بعالم إرادة يلتقي فيها الزمان والمكان، والقدوة فيها موسى الذي جاء على قدَر، ووصولا إلى الحقيقة الإنسانية الموضوعية المتمثلة في عالم الأشياء الذي يقرأ فيه الإنسان بالقلم ليتعلم ما لم يعلم، ويبدو المرور من العوالم الثلاث على شكل توسطات جدلية جِماعها قوله تعالى: “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” [يسن، 81]، فتتحقق إبيستيمولوجيا المعرفة الكونية بشكل جدلي، يحضر فيها القلم معبرا عن هذه المعرفة التي تكون كونية أو لا تكون..
ويعتقد الدكتور التازي أن كل ما جمعه الأستاذ –B.W. Robinson– عن المعراج من فوائد ومعلومات موثقة ومنوعة كان يستحق التقدير والتنويه بما في ذلك أسماء الذين ألفوا عنه من العلماء الأجلاء، وخاصة الشيخ جعفر البرْزَنجي معاصر الشيخ المعطَى، والذي كانت له معه مراسلات، ولاسيما ما حرره الاثنان عن أدبيات المعراج، كل ما جمعه الأستاذ –Robinson– بما في ذلك ما يتناول الفنون الإسلامية يستحق التنويه والإشادة، لكن كان ينقصه الوقوف على ما حرر الشيخ محمد المعطَى بن الصالح الشرقي حول الموضوع مما كان فريداً في بابه، ومما كان فيه نسيج وحْده..
قال الشيخ المعطى في قصيدته حول القدس:
قطرٌ إذا عُدَّتِ الأقطـــارُ كــــان يـــرى رأساً بما قد حـــوى، والغيرَ أذنــــابـاً
وكيف لا؟ وهو أُولَى الْقِبْلـــتين بمـــا في روْضِه من ثمار العــلم قد طَـــابا
وثالثُ الحـرمين مهـــْدُ كـــل الْبَـــرَى من كــل فـــــجّ به عجْــماً وأعــــرابا
بالمســـجدِ الأقصــــى وحــــرمتِــــه أنال أقْصَى المنـــى ولســتُ مـرتابا
إنــــي، وحــقِّك، لا أزال معــــترفــــاً بقدرك المعتــلى في الفضْـــل أبوابا
وفي رحابكـــم القدسُ الكريمــة، قد سادت فمَـن أمــها، واللهِ مـــا خــابا
ومن محمدٍ المعطَى بن صالح الشــ ـشرقي، ســــلام بين الْوَرَى طـــابا
لا زلتَ يا قدس! يا مــهد النبوءة في قدْرٍ عظيـــــم وستْـــرٍ دام جـــلبــابا
عليه أكمـلُ تسليــــمٍ يـــــدوم لــــه عَــرف يعم شـــــذى آلاً وأَصْـــحابـــا
سمعنا كذلك عن مراسلاته الشعرية مع بعض الشخصيات التي تنتسب إلى القدس الشريف من كبار السادة أمثال العلامة الشاب أبي عبد الله بن محمود ابن بدير الملقب بالخَضِر، يقول الشيخ
قالوا لكل زمــان في الْــــوَرَى خَــضِرٌ روض العلوم بـــه في وقـــــته خَــضِر
فقلت: قـــــد صَـــــدَقُوا لأن ذا زمــنٌ وأنتَ يا بهــــجة العليــا به الْقــــــَمَر
خلف سيدي محمد المعطي أبناء وبنات، وإذا كان أشهر أبنائه هو سيدي عبد السلام الشرقاوي الذي ترجم له محمد بن جعفر الكتاني في السلوة، فإن له بنتا فاضلة عالمة هي لالة هنية التي كانت عالمة نساخة لعيون المخطوطات، حريصة على الإسهام في المجالس العلمية النسوية، وهذا جانب من الأهمية بمكان في سيرة الشيخ المعطَى[5]، رحم الله هذا العالم المربي الفنان المبدع وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا والله الموفق للخير والمعين عليه..
————————————-
1. الفهرسة الكبرى والصغرى لمحمد التاودي بن سودة دراسة وتحقيق عبد المجيد خيالي دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة 1، 2002، ص: 139-140.
2. عبد الهادي التازي: من أحد رجالات المغرب: الشيخ محمد الْمعطى بن الصالح الشرقي من خلال مخطوطته حول القدس الشريف. مجلة التاريخ العربي. عدد: 53، 2010م.
3. نفس المصدر.
4. نفس المصدر.
5. عبد الهادي التازي، المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي، نشر الفنك، الدار البيضاء، ط. 1، 1413ﻫـ/ 1992م، ص: 120.
أرسل تعليق