مبدأ اللزوم ومراتب الدلالة.. (9)
اللازم المخالف أو مفهوم المخالفة
ويسمى أيضا دليل الخطاب “وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه“[1]، وهو من باب الدلالة الالتزامية[2]. قال التلمساني: “وأما مفهوم المخالفة وهو أن يشعر المنطوق بأن حكم المسكوت عنه مخالف لحكمه وهو المسمى بدليل الخطاب“[3].
وجاء في التقريب لابن جزي قوله: “أما دليل الخطاب فهو مفهوم المخالفة، وهو الذي يطلق عليه اسم المفهوم في الأكثر وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، وهو حجة عند مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة، وكل مفهوم فله منطوق، ولا خلاف أن المنطوق حجة لأنه الذي وضع له اللفظ، مثال ذلك “إنما الولاء لمن أعتق”[4]. فمنطوق هذا اللفظ إثبات الولاء لمن أعتق، ومفهومه نفي الولاء عمن لم يعتق”[5].
ولقد عقد ابن القصار في كتابه المقدمة بابا نفيسا لدليل الخطاب، من جملة ما جاء فيه: “ومن مذهب مالك -رحمه الله- أن دليل الخطاب محكوم به، وقد احتج بذلك في مواضع منها حيث قال: إن من نحر هديه بالليل لم يجزه لقول الله عز وجل: “ويذكروا اسم الله في أيام معلومات” [الحج، 26]، دليله أنه لا يجزئه إذا نحره بالليل، وكقوله: من دخل الدار فأعطه درهما، دليله من لم يدخل فلا تعطه شيئا، وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب. والوجه فيه أن ينظر عند ورود الخطاب -بالشرط أو الصفة- إلى سياق الكلام وما تقدمه وما خرج عليه الخطاب، فإن وجد دليل يدل على الجمع بين المسكوت وبين المذكور صير إليه، وإن لم يوجد دليل أمضي الحكم على ما ذكر، ثم ينظر في حكم المسكوت على سبيل ما ينظر في الحوادث التي لا نصوص فيها، فقد يقع السؤال عن شيء على صفة فيخرج الجواب مقيدا به ولا يكون في ذلك دليل على مخالفة المسكوت عنه في المذكور”[6].
ثم بين بعد ذلك وجه أخذ المذهب بهذا الصنف من الدلالات فقال: “والحجة لقوله بدليل الخطاب إذا تجرد هو أن ذلك لغة العرب؛ لأن الخطاب إنما يقع باللسان العربي وبه يحصل البيان ووجدنا أهل اللسان يفرقون بين المطلق والمقيد وبين المبهم وما يعلق بالشرط، فإذا قال القائل: “من دخل الدار من بني تميم فأعطه درهما“، عقل منه خلاف ما يعقل من قوله “من دخل الدار فأعطه درهما، وعقل منه خلاف ما يعقل من قوله “من لم يدخل الدار فأعطه درهما“. ولذلك قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر للصلاة إذا امنوا لما سمعوا قوله عز وجل: “فليس عليكم جناح اَن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا” [النساء، 100]. فكان عندهم أن ما عدا الخوف من الأمن بخلافه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صدقة تصدق الله عز وجل عليكم فاقبلوا صدقته“[7]، ولم يرد عليهم ما ظنوه ولا خطأهم فيما قدروه فدل على أن ذلك لغته صلى الله عليه وسلم ولغتهم رضي الله عنهم، فدل على صحة القول بدليل الخطاب”[8].
يتبع في العدد المقبل…
——————————————
1. شرح تنقيح الفصول، ص: 53.
2. نفسه، ص: 271.
3. مفتاح الوصول، ص: 555. وانظر منتهى الوصول والأمل لابن الحاجب، ص: 148.
4. أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
5. تقريب الوصول، ص: 88.
6. المقدمة في الأصول، ص: 81، وما يليها، ط 1، 1996، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
7. أخرجه مسلم.
8. المقدمة، ص: 85-86.
أرسل تعليق