مبدأ اللزوم ومراتب الدلالة.. (7)
إن حاصل دلالة المفهوم الموافقة، ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لاشتراكهما في معنى يدرك من سياق الكلام أنه ينزل منزلة العلة التي استوجبت ذلك الحكم.
وقد سمى الأصوليون هذه الدلالة تسميات مختلفة، فباعتبار أن الحكم في هذه الدلالة يؤخذ من معنى النص سماها الحنفية دلالة النص، وباعتبار الحكم مأخوذا من فحوى الكلام ومعناه سماها آخرون بفحوى الخطاب[1] أو لحن الخطاب، وباعتبار أن مدلول اللفظ في محل السكوت موافق لمدلوله في محل النطق سماها الشافعية مفهوم الموافقة.
ومن ثم يتبين أن دلالة مفهوم الموافقة تشتمل على العناصر التالية
– أنها دلالة تتقوم بالسياق، أي أنها دلالة سياقية؛
– أن بين المنطوق والمسكوت عنه علاقة معينة؛
– أن إدراك هذه الدلالة إدراك مباشر..
أ. فبالنسبة للعنصر الأول، يمكن القول إن الأصوليين اعتبروا لسياق الكلام دورا أساسيا في تحصيل هذه الدلالة، فسياق قوله تعالى: “فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ” [الاِسراء، 23] هو الإحسان للوالدين وكف الأذى عنهما. أما السياق في قوله تعالى: “اِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا ياكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا“ [النساء، 10] فهو صيانة مال اليتيم من كافة أنواع الإتلاف.
ومعنى هذا أن دلالة المفهوم الموافق تتصف بالوصفين التداوليين الآتيين:
1. كونها دلالة مقامية يتدخل القصد في تحديدها، أي أنها دلالة مقصودة، حيث تبين أن الشارع في مثال مال اليتيم يقصد الكف عن تضييع مال اليتيم، كما تبين من سياق آية التأفف أن الشارع يقصد كف الأذى عن الوالدين والحث على إكرامهما.
2. كونها دلالة قابلة للإلغاء، ومعناه أن القائل قد يقول: “لا تأخذ من مال اليتيم درهما، ولكن خذ ما زاد على ذلك“، دون أن يترتب عليه أي تناقض. ولقد تنبه الغزالي للصفة الإلغائية التي تتقوم بها دلالة المفهوم الموافق، وكلامه في المستصفى شاهد على هذا التنبه، حيث قال: “لكن يشترط أن يفهم أن مجرد ذكر الأدنى لا يحصل هذا التنبيه ما لم يفهم الكلام وما سيق له، فلولا معرفتنا بأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين واحترامهما لما فهمنا منع الضرب والقتل من منع التأفيف، إذ قد يقول السلطان إذا أمر بقتل ملك: لا تقل له أف لكن اقتله، وقد يقول: والله ما أكلت مال فلان ويكون قد أحرق ماله فلا يحنث“[2].
يتبع في العدد المقبل…
———————————————-
1. يقول الباجي في تعريفها: “فحوى الخطاب هو ما يفهم من نفس الخطاب من قصد المتكلم بعرف اللغة”، إحكام الفصول، ص: 439.
2. المستصفى، ص: 264.
أرسل تعليق